منذ طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي، في كل المنطقة بالشرق الأوسط تتأجج الصراعات المتعددة على عدة جبهات نحو مزيد من التوسع والتصعيد. وتجد حكومات تل أبيب وواشنطن ولندن، ومعها ما يشارك بمرتبة صف ثانٍ في العمل العسكري، أنفسها في متاهة، وربما مأزق في التمييز بين الأهداف المرجوة وما يمكن إنجازه عملياً على ساحة المواجهة أولاً عسكرياً وثانياً سياسياً واقتصادياً.
في داخل الأوساط السياسية لما يمكن وصفه بالتحالف الغربي المساند للاحتلال الإسرائيلي يدور صراع بين من يمكن وصفهم بالصقور والحمائم المزيفة أو بين الذين لا يريدون التخلي عن مخطط التصفية الكاملة لمقاومة وتهجير فلسطينيي قطاع غزة إلى سيناء أو دول أخرى، ومحو أي فرص للقضية الفلسطينية، وبين هؤلاء الذين يؤكدون أنه وبعد أن تبين بعد زهاء 4 أشهر من الحرب بكل القدرات ضد قطاع غزة أن الحل العسكري بعيد المنال إن لم يكن مستحيلاً في الوقت الحاضر، فإن الأفضل هو حل سياسي وتسوية مع الخصم تتضمن ديباجتها بنوداً تسمح للطرف الغربي بحماية ماء الوجه والإعلان عن أي نصر وإكمال وإتمام المهمة كما فعل حلف الناتو وهو ينسحب من أفغانستان، وقبلها من فيتنام وغيرها.
بين التوجهين تتصادم التقارير والتحليلات، كل جانب يريد ترجيح كفته ومتابعة مساره مصرّاً على أنه الأفضل، غير أن أموراً وتطورات خارج قدرة تحكم وإمكانيات القوى المهيمنة في توجيه الأحداث بمنطقة الشرق الأوسط تفرض نفسها وتجبر تل أبيب وواشنطن ولندن ومن تبعها على مراجعة استراتيجيتها.
حكومة بنيامين نتنياهو لا تزال تؤكد أنها لن تتخلّ عن تدمير حماس، ومنع غزة من أن تشكل مستقبلاً أي تهديد على دولة الاحتلال، ولكن السبيل إلى إنجاز ذلك لا يزال بعيداً، والجيش الإسرائيلي ومختلف أجهزة المخابرات في التحالف الغربي تقر أنه لم يتم إنجاز أي هدف أساسي منذ قيام العملية العسكرية لإضعاف حماس ومحوها، وأن قتل أكثر من 26 ألفاً من سكان القطاع وغالبيتهم من النساء والأطفال لا يمكن أن يعتبر إنجازاً عسكرياً.
وتظل التقديرات الإسرائيلية عن إنجازات قواتها ملتبسة، ولكنها إذا كانت تتحدث أحياناً عن قتل 8 آلاف من مقاتلي حماس أو ما يشكل 22% فقط مما تتصوره عن تعدادها فإنها تقرّ أن 80% من أنفاق غزة التي صعّدت التقديرات الغربية من حجمها من 500 كم لا تزال سليمة وبعيدة عن متناول قوات الاحتلال.
وقد كتبت صحيفة "فايننشيال تايمز" تقول: "إن إسرائيل تعاني لتحقيق أهدافها المعلنة". ونقلت عن مصدر مطلع على خُطط الحرب الإسرائيلية أن حماس ما زالت تحتفظ بالقدرة على إطلاق الصواريخ، خصوصاً من المناطق التي لم تصلها القوات البرية الإسرائيلية بعد، وربما تختار الحفاظ على ترسانتها.
بينما يستمر جيش الاحتلال ومنذ تدخله البري في قطاع غزة في تكبد الخسائر، إذ فقد كلياً أو جزئياً حوالي 1000 دبابة ومدرعة وناقلة جنود، وهذا وضع ربما يحد من إمكانية شنّ الاحتلال الإسرائيلي عمليات عسكرية أوسع في مناطق أخرى، مثل الجبهة اللبنانية أو "ممر فيلادلفيا" مع مصر، مع خسائره البشرية المعلنة حتى الآن، والتي تقارب أرقامها 557 قتيلاً و3 أضعافهم من الجرحى، وهذا في حد ذاته رقم كبير بالنسبة لعدد سكان دولة الاحتلال التي يقدر عددهم بنحو 9 ملايين نسمة، ولا يجب أن ننسى أن نحو 21% من تعدادهم عرب، ويجب الذكر أيضاً أن هناك تقديرات محايدة تتحدث عن أرقام قتلى ومصابين أكبر بكثير في جيش الاحتلال.
وفي العاشر من ديسمبر 2023 خالفت صحيفة يديعوت أحرونوت سياسة الرقابة العسكرية على ما تنشره، وطبعت تقريراً صادماً عن خسائر الجيش في الحرب على غزة، وقالت فيه إن عدد الجنود الجرحى بلغ نحو 5 آلاف، من بينهم ألفان على الأقل أصبحوا في عداد المعاقين، لكن الصحيفة ما لبثت أن سحبت تقريرها، ونشرت أعداداً أقل من ذلك بكثير.
وفي اليوم ذاته، كشفت صحيفة هآرتس أن ثمة فجوة كبيرة بين عدد الجنود الجرحى الذي يعلنه الجيش الإسرائيلي، وما تظهره سجلات المستشفيات، مشيرة إلى أن العدد الذي أعلن عنه الجيش هو 1600 جريح، بينما تظهر القوائم التي أعلنت عنها المستشفيات أنها استقبلت 4591 جريحاً خلال الفترة نفسها.
وفي تأكيد لهذه المعلومات، تحدثت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن خسائر فادحة تفوق هذه الأرقام بكثير، وقالت إن المستشفيات تكتظ بالجرحى من العسكريين، وإن المقابر تستقبل أعداداً هائلة من الجثث.
ولا تتوقف الخسائر في ميدان المعركة، بل تصل إلى الاقتصاد، فأقرت مصادر مالية في إسرائيل أن تكلفة الحرب تجاوزت 60 مليار دولار، في حين أفلست وتفلس يومياً عشرات الشركات بسبب نقص اليد العاملة أو فقدان المواد الأولية والمكونات الصناعية بسبب حصار البحر الأحمر ونفور آسيوي وشل حركة الموانئ.
تكشف هذه التداعيات في سياق أوسع كيف أن الخسائر البشرية والاقتصادية غالباً ما تشكل نقطة ضعف حرجة للقوى الغربية في مختلف الصراعات العسكرية، بدءاً من حرب فيتنام وصولاً إلى اليوم. وبذلك، يمكن اعتبار إسرائيل جزءاً لا يتجزأ من هذه التركيبة، حيث تعكس الحرب اليوم الجانب المعقد للحروب التي لا تقتصر تأثيراتها على الجبهات الأمامية فحسب، بل تمتد لتؤثر بشكل عميق وشامل على البنية الاقتصادية.
إن نتنياهو اليوم وفي نطاق محاولته لإنقاذ نفسه يسعى لتوسيع نطاق الحرب بمشاركة مباشرة من قوات جيش الولايات المتحدة الأمريكية لتشمل لبنان وإيران وسوريا وغيرها، لعلها تنجح في فرض واقع جديد في الشرق الأوسط يكون لصالحها ويخفف من وقع جزء من الخسائر التي فرضتها عليها عملية طوفان الأقصى، ولكن البيت الأبيض متردد في خوض المغامرة، خاصة أنها يمكن أن تفجّر حرباً عالمية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.