ساءني أمس أن رأيت رجلاً مسناً يقترب من الثمانين، يوبخ رجلاً أربعينياً على عدم حسن تربيته لابنه. أفاض المسن في التوبيخ باتهام الرجل بأنه مشغول عن ابنه، وأنه غير مهتم بتربيته، وأنه يترك الولد لصحبة السوء، وأنه لا يشارك ابنه اهتماماته. ظل الرجل الأربعيني صامتاً لا يدافع عن نفسه، وربما كانت له أسبابه التي لم أحب أن أتدخل فيها، لكن كاد لساني يسبقني للدفاع عن هذا الرجل المتهم، ليس لأني أعرفه، لكنْ محاولةً مني للدفاع عن جيل كامل- آباء وأمهات- متهم دائماً بسوء تربيته لأولاده. ولأني لم أعرض ردي على المسن، فها كم ردي عليه وعلى غيره ممن لهم الاعتقاد نفسه.
لا مناص هنا من المقارنة بين جيلين يمثلهما كلا الرجلين، فجيل الرجل المسن حصل على مكاسب لا يحلم الرجل الأربعيني بنصفها اليوم؛ نظراً إلى الأمان المجتمعي النسبي الذي كان يتخلل أجزاء من الحياة تلك الفترة، فلم يكن جيل المسن تحت الضغوط الوظيفية ولا الأسرية ولا الصحية ولا الثقافية نفسها التي يعيشها ويئن تحت ثقلها جيل الرجل الأربعيني اليوم في زمن ما بعد الحداثة، ولهذا آثاره على الطريقة التي ربَّى بها كلُ جيل أولادَه وعلى كيفية استجابة الأولاد.
إذ لم يُتَح لأولاد جيل المسن إلا قراءة الصحف والمجلات والكتب، والاستماع لمحطات راديو وتلفزيون محدودة للغاية، في حين يُتاح الآن لأولاد جيل الأربعيني خلال عصر الفرط المعلوماتي ما لا حصر له من محطات تلفزيونية، وملايين مواقع الإنترنت، وأجهزة الكمبيوتر اللوحية والهواتف الذكية، وهذا سلاح ذو حدين، حيث قد يبدو للبعض أن هذه نقطة في صالح أولاد الرجل الأربعيني، لكن المضمون الذي يُقَدَّم لهؤلاء ربما يدحض ذلك.
فعلى سبيل المثال، كانت الثقافة في زمن مضى تُصادف الشباب عند بحثهم عن الترفيه وقضاء الوقت، فحتى النقد المجتمعي والطرح الثقافي كانت له قوالب ذات جودة يساق فيها ليعرض على الجمهور بمختلف أفكاره، فقرأ أولاد المسن لعمالقة الفكر والأدب (مثل العقاد وطه حسين والرافعي وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ)، واستمعوا لكبار قراء القرآن الكريم في أوج مجدهم (مثل الشيوخ المنشاوي والبنا والحصري وعبد الباسط) ولكبار المطربين (مثل أم كلثوم وحليم ونجاة الصغيرة وفريد الأطرش)، وشاهدوا كبار نجوم التمثيل في السينما والمسرح والتلفزيون (مثل يوسف وهبي وفاتن حمامة وشكري سرحان وأحمد مظهر وهدى سلطان وأحمد زكي). تم كل هذا عبر قنوات تلفزيونية ومحطات إذاعية محدودة العدد وتحت رقابة حكومية وأسرية.
أما أبناء الرجل الأربعيني في عصر يتسم بالاستهلاكية يتم تسليع كل شيء فيه، فنادراً ما يجدون محتويات تقدّم لهم شيئاً نافعاً، إذ يغلب على عصرنا التفاهة والقبح من أجل الربح. ومن المعروف أن الوسائط الإلكترونية المتعددة سحبت البساط من تحت القراءة على الرغم من أهميتها الكبيرة في تطوير مهارات التفكير الناقد والإبداعي، خاصة بعد انهيار مستوى الجودة والذوق العام، الذي أثر بالطبع على مستوى الكُتَّاب والشعراء والمفكرين والصحفيين وانتشار الطباعة دون مراجعة سابقة على ما يُنْشَر. أما الغناء والمسرح والسينما فباتت في جلها "بيزنس" يسيطر عليه رجال أعمال وشركات لا يهمها سوى الأرباح حتى ولو على حساب نشر أفكار تهدم الأسرة وتشوه المجتمع. أما أجهزة الهواتف والحواسب اللوحية (التابلت) الذكية، فقد حولت هذا الجيل الجديد لمعدومي الصبر، إذ تحدُّ من ذكائهم بوهم المعرفة السطحي فأصبحوا أسرى لتطبيقات تستنزف عقولهم وأبصارهم بمحتويات شديدة السطحية تعمي بصيرتهم وتفتح شهيتهم للطمع أكثر وأكثر نحو المادة.
وبالرجوع للرجل المسن، سنلاحظ أنهم قد نشأوا في زمن كان الترابط الاجتماعي متيناً، حيث كانت القيم واضحة، فكان يغلب في الوسط المجتمعي احترام الكبير حتى وإن لم يكن من الأقارب أو الجيران أو المعارف، وكان لدى جل هؤلاء نخوة تدفعهم إلى الدفاع عن الصغير والتدخل لفض اشتباك أو للنهي عن سلوك مشين. أما أبناء الرجل الأربعيني، فقد نشأوا وينشأُون في زمن يتسم بتفكك أسري، حيث يغلب عليه تملص الأقارب من بعضهم البعض، ولا يُرَاعِي فيه الجيرانُ مشاعرَ جيرانِهم خاصة في أوقات الحزن والفرح؛ ومن ثم لا تجد حمية لدى كثير ممن يعرفون هؤلاء الشباب للتدخل في شؤنهم إن وجدوا منهم سلوكاً لا يرضيهم حتى خُيِّل لهؤلاء الشباب أن كل ما يأتون به مقبول اجتماعياً.
والآن لنسأل: ماذا كان متاحاً لأبناء الرجل المسن من وسائل إذا أرادوا أن "ينحرفوا" كنوع من أنواع التمرد عن جهل؟ هل كان بمقدورهم الحصول على أي مخدر أو شراب مُسكر ؟ ولو حصلوا على أي من هذه الوسائل وأخذتهم النشوة، هل كان بمقدورهم أن يُجَاهِروا بها تحت السمع والبصر؟ أظنك ستقول: "لا". وهذا صحيح، فكل هذه الوسائل لم تكن متاحة لأبناء الرجل المسن إلا بمشقة كبيرة. وحتى لو استطاعوا الحصول على ما أرادوا، ما كان بمقدورهم أن يُجَاهِروا بها تقديراً للعواقب المجتمعية.
أما أبناء الرجل الأربعيني، فيمكنهم الحصول على عشرات الأنواع من المخدرات والمُسكرات والمهلوسات من عشرات الصبيان في أي سوق شعبي، والكثرة الكاثرة من هذه المخدرات والمسكرات والمهلوسات تسير جنباً إلى جنب مع كثرة كاثرة أخرى من المثبطات والخيبات التي مُنِيَ بها شبابُ هذا الجيل لأسباب اقتصادية واجتماعية متعددة، فماذا يُتَوَقَّع من هؤلاء الشباب حتى ولو كثرت الدراسات الأكاديمية والحملات التوعية؟
نشأ أبناء الرجل المسن في زمن كانت المجتمعات أكثر محافظة؛ حيث كانت القيم والعائلة قوية ومؤثرة في النفوس. أما أبناء الرجل الأربعيني فيعيشون في عالم يُطْلَق عليه اسم "القرية الصغيرة". في هذه القرية، يتعرضون لكثير من الطروحات والثقافات المادية الغربية التي تختزل الإنسان في جانبه المادي، فتبرز أن السعي وراء الغرائز والنشوة هو الهدف.
وبطبيعة الحال، يتأثر أبناء الرجل الأربعيني بهذه القيم الغريبة التي تتناقض مع ثقافتهم الأصيلة، خاصة في ما يخص ضرورة أن يُتْرَك للابن والبنت الحريةُ المطلقة دون حدود أو توجيه. وعلى الرغم من أن هذه الثقافة المادية التي تطغى على مجتمع هذا الجيل مليئة كذلك بأنواع شتى من السلوكيات الجيدة، مثل الاعتماد على الذات وتنظيم الوقت، فإن المغلوب في حضارته يقلد الغالب فقط فيما يفعل من سلبيات، لأن الإيجابيات تتطلب جهداً كبيراً لا يقوى المغلوب على القيام بها.
هذا غيض من فيض المؤثرات التي لها دور في تربية الأبناء وتدفعهم إلى سلوكيات معينة ارتضاها- إلى حد كبير- جيلُ الآباء السابقين ولا يرتضيها جيل الآباء اليوم. فيا حبذا لو نظرنا إلى هذه المؤثرات بتمعن لنجد عذراً لأخطاء أبنائنا الصغار اليوم؛ فهم حقاً جيل مظلوم يستدعي التعامل معهم التماس الأعذار، واللين في غير تراخٍ، والقوة في غير شطط، والدعاء بأن يهديهم الله قبل كل شيء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.