في عالم السرد السينمائي، يبرز فيلم The Last Samurai "الساموراي الأخير" للمخرج الأمريكي إدوارد زويك، ليس فقط كفيلم بل باعتباره استكشافاً عميقاً لأعماق المرونة الإنسانية، وتعقيدات النضال ضد الاستعمار، والسعي الدائم للحفاظ على الأصالة في عالم سريع التغير. تتعمق هذه التحفة الفنية في الفترة المضطربة في سبعينيات القرن التاسع عشر في اليابان، وهو الوقت الذي اصطدم فيه القديم والحديث، ما مهد الطريق لسردٍ غني بالاستبطان الثقافي والمعضلات الأخلاقية.
يقدم لنا الفيلم شخصية الكابتن ناثان ألجرين (الذي يلعب دوره توم كروز)، وهو ضابط عسكري أمريكي يائس يعكس اضطرابه الداخلي الاضطرابات الخارجية لتلك الحقبة. تم رسم شخصية ألغرين في البداية على أنه رجل ضائع بين العوالم، يطارده ماضيه الدموي كظابط في جيش استعماري فتلاحقه مشاهد وأصوات المذابح بحق السكان الأصليين في نومه وفي كل تأمل. وكأن ماضيه كالإدمان، فيلاحقه، ويأتي له عرض للسفر إلى اليابان، ظاهرياً لتدريب قوات الإمبراطور على الحرب الحديثة، لكن هذه الرحلة تقلب مصيره وتمهد الطريق لتحول عميق في كيانه عندما يتأثر بآسريه، الساموراي، الذين يرمزون داخل الفيلم للأصالة والتقاليد التي تتعرض للتهديد من قوى التحديث والنفوذ الغربي.
يكمن جوهر الفيلم في تصوير الساموراي، بقيادة كاتسوموتو الحكيم والرواقي (الذي يثمل شخصيته كين واتانابي). يظهر الفيلم الساموراي ليسوا كمجرد محاربين؛ بل كونهم آخر الأوصياء على مجتمع وثقافة تتعرض لتشويه والإبادة.
أحد أكثر مشاهد الفيلم إقناعاً والتي تصور هذه المقاومة هي المحادثات الليلية الهادئة والاستبطانية بين ألغرين وكاتسوموتو. خلال أحاديثهم الرواقية، يتم تجاوز حاجز اللغة بين الرجلين من خلال احترامهما المتبادل والفهم المشترك بأنهما محاربان، وإن كان ذلك بقواعد ومعتقدات مختلفة. فكانت هذه الحوارات محورية، لأنها مثلت بداية التحول الداخلي العميق لألغرين واحترامه المتزايد لطريقة حياة الساموراي، والتي اعتبرها في البداية قديمة وبلا فائدة في مواجهة الأسلحة والتكتيكات الحديثة.
ومن خلال عيون ألغرين، يتم تعريف الجمهور بعالم حيث الشرف ليس مفهوماً مجرداً أو زياً غربياً، بل روح حية تتنفس وأسلوب حياة يتبع ويوجه كل عمل وقرار. فنرى مقاومة الساموراي متعددة الأوجه، فعند النظر فيها بعمق نجدها ليست معركة من أجل أراضيهم وأسلوب حياتهم فحسب، بل تتخطى لكونها صراعاً داخلياً عميقاً للحفاظ على قيمهم في عالم لم يعد يبدو أنه يحتوي على مكان النبل الإنساني، فنجد الفيلم لا يخلو من زوايا فلسفية تلفظ في مجملها كل أشكال الاستعمار.
نجد النضال ضد الاستعمار بوضوح عميق في تصوير الفيلم للمعارك بين الساموراي والجيش الياباني الحديث، حيث تخطت المشاهد كونها مجرد مشاهد أكشن؛ لتكون تعليقاً عميقاً على صراع بين الأصالة والتحديث المشوه. يقف الساموراي، بسيوفهم وأقواسهم، كرموز للماضي النبيل، ويقاتلون بشراسة وشجاعة تتناقض بشكل صارخ مع الطبيعة الميكانيكية غير الشخصية لأسلحة أعدائهم الحديثة.
رغم ذلك، الفيلم لا يغرق الصراع في طابع رومانسي عن البطولة الزائفة؛ فنجد أنه ليس لدى الساموراي أي أوهام بشأن الصعوبات التي يواجهونها، ومع ذلك اختاروا القتال، مجسدين فعل المقاومة النهائي ضد قوة لا تسعى فقط إلى الغزو بل إلى إبادتهم.
يتعمق فيلم The Last Samurai أيضاً في موضوع الأصالة وتآكلها تحت وطأة الطموحات الاستعمارية. إذ يصور الفيلم أسلوب حياة الساموراي على أنه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعالم الطبيعي، ويحكمه قانون يقدر الشرف والولاء وجمال البساطة. ويتناقض هذا مع عالم السياسة والتجارة والتكنولوجيا الزاحف، حيث يتم التخلص من هذه القيم بسرعة لصالح التقدم والقوة. ويمكن أن يشعر المشاهد بذلك، خلال المشهد المؤثر الذي ينهي هذا الصراع حين أتت المعركة النهائية، حيث لم تكن المعركة الأخيرة للساموراي مجرد معركة من أجل البقاء بل بيان، عمل أخير من التحدي ضد محو عالمهم.
نجح الفيلم ببراعة ودون ابتذال ربط موضوعات المقاومة، والنضال ضد الاستعمار، والبحث عن الأصالة، حين اكتمل تحول ألغرين، وهو يقف إلى جانب الساموراي، ليس كأجنبي ولكن كشريك في السلاح، متقبلاً قواعدهم ومعركتهم بالكامل، ويخوض المواجهة النهائية معهم كساموراي منحاز لروح الإنسانية.
كان فيلم The Last Samurai بالنسبة لي قصيدة سينمائية عن بسالة المقاومة، وتعقيد مفهوم النضال ضد الاستعمار، والمعركة المؤثرة للحفاظ على الأصالة. من خلال سرده الغني، وشخصياته المقنعة، وتصويره المذهل بصرياً لعصر محوري، إذ يدعو الفيلم المشاهدين في ظل هذا العالم السائل إلى التفكير في الموضوعات الدائمة للهوية الثقافية، والشرف، وكفاح الروح الإنسانية الذي لا ينضب ضد القوى التي تسعى إلى تقليلها أو محوها. فيلم كرسالة لتذكير خالد بأهمية فهم والحفاظ على المنسوجات الفريدة للثقافة الإنسانية لوجودنا على هذه الأرض.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.