ليست المناقشات بشأن انسحاب الولايات المتحدة من سوريا، أو من الشرق الأوسط عموماً، وليدة الأمس، بل هي جدل يتردد منذ زمن طويل. وإذا عدنا إلى بضع سنوات مضت، فلا شك أننا سنتذكر الخطابات الملحمية التي ألقاها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بشأن الانسحاب من سوريا، فقد رفع ترامب شعار "إنهاء الحروب التي لا تنتهي" في خطاباته. ومن المعروف أن ترامب لا يزال متمسكاً بالموقف نفسه، أما عودة الحديث عن الانسحاب من العراق وسوريا في عهد الرئيس الأمريكي جو بايدن فيمكن القول إنها تحركات مرتبطة بالانتخابات الرئاسية الوشيكة.
عاد الحديث عن الانسحاب الأمريكي من سوريا خلال الأيام الماضية، وكان موقع Al Monitor الإخباري الأمريكي أول مصدر لهذه الأخبار، فقد نقل الموقع عن مصادر لم يُسمها أن مجلس الأمن القومي التابع للبيت الأبيض عقد اجتماعاً مع وكالات أمريكية، للنظر في سياسة جديدة للولايات المتحدة تجاه سوريا، واستعرض الحاضرون في الاجتماع خطة للانسحاب من سوريا. وتقوم الخطة المذكورة على عقدِ اتفاق بين حزب العمال الكردستاني (وحدات حماية الشعب) ونظام بشار الأسد، وانسحاب القوات الأمريكية من سوريا، وتسليم مهام القتال في مواجهة "تنظيم الدولة" إلى ائتلاف مكون من نظام الأسد وحزب العمال الكردستاني. وذكر الموقع الأمريكي أن ممثلين عن وزارة الخارجية الأمريكية، ووزارة الدفاع، ووكالة الاستخبارات المركزية شاركوا في الاجتماع الذي استضافه مجلس الأمن القومي التابع للبيت الأبيض.
وبعد أن نشر موقع "المونيتور" هذه الأخبار في 22 يناير/كانون الثاني، كتب المحلل تشارلز ليستر، المعنيّ بمتابعة الملف السوري من كثب، تحليلاً في مجلة The Foreign Policy الأمريكية في 24 يناير/كانون الثاني أكد فيه المزاعم المتداولة عن مسألة الانسحاب. وهكذا اندلعت النقاشات بشأن الانسحاب الأمريكي المحتمل، ثم اتسع الجدل بعد ذلك فيما إذا كان الانسحاب سيكون من سوريا فقط، أم أن القوات الأمريكية ستنسحب من العراق أيضاً.
قال رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، في 10 يناير/كانون الثاني: "حكومتنا بصدد تحديد موعد لبدء الحوار من خلال اللجنة الثنائية التي شُكلت لتحديد ترتيبات إنهاء وجود قوات التحالف بشكلٍ كامل. ولن نتوانى عن فعل أي شيء لحماية سيادة العراق. وسنُنهي وجود قوات التحالف التي لم يعد لديها أي مبرر للبقاء في العراق"، و"نحن نكرر هنا موقفنا الثابت بشأن هذه المسألة". وأعلن وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن أن اللجنة العسكرية العليا الأمريكية العراقية ستبدأ اجتماعات عمل في 25 يناير/كانون الثاني. إلا أن مسؤولاً في وزارة الدفاع الأمريكية أوضح في اليوم نفسه، أن "اجتماع اللجنة العسكرية العليا لا يتضمن النقاش بشأن انسحاب القوات الأمريكية من العراق". ومع ذلك، زعم وزير الدفاع العراقي أنهم سيُحددون موعداً لانسحاب قوات التحالف.
بالتأمل في الأخبار الواردة وتصريحات المسؤولين، نخلص إلى أن الجانب العراقي يبدو أنه يحاول الضغط على الولايات المتحدة للخروج من المنطقة، ولهذا الأمر اتصال بالاجتياح الإسرائيلي المتواصل لقطاع غزة، كما أن إيران لديها تأثير حاضر في هذه المسألة بطبيعة الحال. ويمكن القول كذلك إن الولايات المتحدة باتت مضطرة إلى اتخاذ قرار في مسألة الانسحاب بعد الهجوم الذي تعرضت له قاعدة أمريكية في منطقة التنف، وأدى إلى مقتل 3 جنود أمريكيين على الأقل. وربما تتأثر قرارات إدارة بايدن أيضاً بتداعيات الأمر على الانتخابات الرئاسية المقبلة، ووعود ترامب المتوالية بإنهاء الحروب التي لا تنتهي.
إذا صرفنا النظر عن الجدل السياسي داخل الولايات المتحدة بشأن الانسحاب من العراق أو سوريا، والتفتنا إلى الآثار المتوقعة لهذا الانسحاب في المنطقة، فإن أقرب التوقعات أن الانسحاب الأمريكي ستكون له عواقب وخيمة في المنطقة. وينبغي الإشارة أولاً إلى أن الانسحاب الأمريكي الكامل من العراق يعني بمقتضى الحال انسحاب القوات الأمريكية من سوريا. فواقع الأمر أن العراق يتولى إمداد القواعد العسكرية في سوريا بجميع الخدمات اللوجستية التي تحتاج إليها.
وجديرٌ بالاعتبار كذلك أن الولايات المتحدة انسحبت منذ وقت قريب من مناطق منبج وعين العرب، وتراجعت إلى خط "دير الزور والحسكة والقامشلي" باتجاه الحدود العراقية.
وإذا انسحبت الولايات المتحدة انسحاباً كاملاً من قواعدها في سوريا، فإنها ستحرص قبل كل شيء على ألا يتسع نفوذ إيران مكانها في المنطقة. ومع ذلك، فإن بلوغ الولايات المتحدة مساعيها هذه يبدو أمراً بعيد المنال، إذ يكاد يكون من المستحيل على روسيا أن تستطيع احتواء التمدد الإيراني، خاصة وأن موسكو مقيدة بانتشارها العسكري المحدود في سوريا، وحربها الجارية في أوكرانيا.
ويمكن أن نستحضر هنا ما حدث في خط محافظتي درعا والقنيطرة بعد أن رفعت الولايات المتحدة درعَ الحماية "الدبلوماسية" عن المعارضة السورية هناك، فقد تُركت المنطقة وما لبثت أن وقعت تحت سيطرة قوات النظام والميليشيات الشيعية المدعومة من إيران. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن أساس المشكلات الأمنية وأنشطة التهريب التي يعاني الأردن وطأتها اليوم هي تجارة المخدرات التي يديرها وكلاء إيران وعناصر النظام السوري في المنطقة.
ومن ثم، يمكن القول إن انسحاب الولايات المتحدة من سوريا سيعقبه ولا بد سيطرة إيران على خط الحدود العراقي السوري بأكمله أو معظمه على الأقل. ولن يقف التمدد الإيراني عند الحدود العراقية، بل سيصل إلى الحدود التركية أيضاً إذا اختارت أنقرة التسوية مع روسيا والنظام السوري في مواجهة الانسحاب الأمريكي، وربما نشهد حينئذ وصول الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران إلى مناطق عين العرب والقامشلي، ومنها إلى خط الحدود.
ومن المتوقع أن تسعى الولايات المتحدة إلى حماية وجود حزب العمال الكردستاني (وحدات حماية الشعب) في المنطقة قبل انسحابها المحتمل. والاتفاق مع النظام السوري وإيران سيجعل لهما ميزة تكتيكية مهمة على تركيا. فواقع الأمر أنه إذا دخلت قوات النظام المدعومة من روسيا وإيران إلى المناطق التي انسحبت منها الولايات المتحدة، فإن تسخير النظام السوري حزب العمال الكردستاني ليكون ورقة رابحة له في مواجهة تركيا يبدو احتمالاً مرتفعاً للغاية، فضلاً عن ذلك فإن السياسة التي تنتهجها روسيا في التعامل مع حزب العمال الكردستاني تتمحور حول تطوير التعاون بينهما، وليس القضاء على الحزب، والتنسيق القائم بين الطرفين في تل رفعت وحي الشيخ مقصود (ذي الأغلبية الكردية في حلب) ومنبج وعين العرب والقامشلي يُبرهن لنا على ذلك.
ويتجلى من ذلك أن تركيا ستواجه مصاعب طارئة وكبيرة إذا انسحبت الولايات المتحدة من سوريا، بل ربما تواجه تركيا تهديداً مباشراً من الأراضي السورية. ولذلك، فإن مكافحة الإرهاب أمر ذو أهمية بالغة. وإذا انسحبت الولايات المتحدة، واتخذت روسيا وإيران نهجاً يركن إلى الضغط على تركيا، فإن ذلك ربما يدفع أنقرة إلى النظر في جميع الخيارات العسكرية المتاحة للتعامل مع الأمر.
وبناءً على ذلك، يبدو أن التوازن العسكري الذي فرضته تركيا في عملية "درع الربيع" في إدلب، يواجه أول امتحان خطير له منذ ما يقرب من أربع سنوات. وينبغي الإشارة بطبيعة الحال إلى أن الخطط المتداولة للانسحاب الأمريكي من سوريا لا تزال حديثة العهد ولم تنعقد عليها الأيدي بعد، ومع ذلك، يبدو أن الولايات المتحدة لديها ميل للانسحاب من العراق وسوريا، كما انسحبت من أفغانستان. لذا فإن عودة النقاش الأمريكي بشأن الانسحاب في الأيام الماضية ربما يقتضي من تركيا إعادة النظر في القضية عما قريب.
لم يتسع المقال للتفصيل في توقع المسارات الناشئة عن الانسحاب الأمريكي من سوريا، إلا أنه يمكن القول بوضوح إن التمدد الإيراني في المنطقة ربما تنشأ عنه أخطار جمّة على دول الخليج، وعلى تركيا خصوصاً. ومن المتوقع كذلك أن يعارض الاحتلال الإسرائيلي تسليم سوريا إلى النفوذ الإيراني، وأن يقاوم اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة هذا الأمر. لذا نقول إنه يجدر بالولايات المتحدة أن تبني خطة الانسحاب على أساس الحل العقلاني وتوازن القوى، وأن تُدخلَ في معادلة الحل تركيا ودول الخليج والعشائر العربية في سوريا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.