لأننا نحمل هم فلسطين، ونعتبر أنفسنا مقصرين في حق هذا الجزء الغالي من أرضنا العربية التي تضم مقدساتنا ومسرى رسولنا؛ فكما هزّ هذا الدمار والقتل الوحشي الإرهابي من قبل الاحتلال مواطني الدول الغربية، ووضع الفلسطيني أمام تحدٍّ لا يتحمله بشر، تحدٍّ يعيد طرح أسئلة حقيقية عن الصبر والتحمل والموت والإرادة، يضع باقي العرب وأصحاب الضمائر الحية في العالم أمام مواجهة واقع عالمنا القاسي.
إن المعاناة في فلسطين لا تخص الفلسطينيين ولا العرب وحدهم، بل هي تصور مأساة الإنسان الحالي في عالمنا اليوم، لكنها تلامس وتراً حساساً في نفوس العرب، لذلك فهي تهز أركانهم أكثر من أي شخص آخر لأنها تضعهم أمام مآسيهم وأمام العالم وجهاً لوجه ودون أية حماية، فتوقظ فيهم مشاعر مركبة ومختلطة بين العزيمة والصلابة، والألم والضعف، والمقاومة والخوف.
وسط هذا التخبط تظل مشاعر المقاومة هي الأكثر طغياناً، فالدماء التي أُريقت في سبيل الحرية في غزة لم تذهب سدى، ولن يصبح شهداؤها أرقاماً، فرغم أن الشعوب العربية لا تملك إرادتها، إلا أنه يشحن كل يوم بالمقاومة والإصرار على الحق لتغيير واقعه.
لقد عانت الشعوب العربية لفترة من التخبط والاغتراب، واليوم تعود لنفسها من خلال قضيتها المركزية "فلسطين"، فبينما تشحن الجماهير العربية نفسها بالغضب والألم، تستحضر تراثها الحاضر في قلبه فلسطين، تسترجع كل شيء على فلسطين وكأن النكبة كانت بالأمس، فتعود لحفظ القصائد الفلسطينية، والمدن الفلسطينية بتفاصيلها وحكايتها وحروبها، والمجازر التي ارتكبت بها، تستحضر فلسطين من النهر إلى البحر بأسواقها ومعارضها، مدارسها وشوارعها، حياة أفرادها العادية، كل هذا الشحن من أجل فلسطين ومن أجل أنفسنا، إذ تساعدنا فلسطين لتمسك بهويتنا، وحقوقنا، أمام كل عمليات الطمس والتشويه التي تسعى لتختزل شعوبنا في خانة المهزومين دائماً.
تكتنف الرواية الفلسطينية أبعاداً تتجاوز حدودها الجغرافية، إذ تمتد جذورها في قلب التراث والثقافة والتاريخ العربي، فتجد انعكاسات هذه العلاقة المتجذرة في تنوع اللهجات، وفي الوجوه التي تروي قصصاً عبر الأجيال، وفي الأحداث التي شكلت ملامح الحاضر والماضي. فلقد عايش الشعب الفلسطيني واقعاً مليئاً بالتحديات والمعاناة، مرارة لا تضاهى بين الشعوب في العصر الحديث.
في هذا السياق، تبرز معضلة تاريخية وأخلاقية تلقي بظلالها على الهوية العربية؛ فقد شهدت فلسطين تجاهلاً وتخاذلاً من جانب إخوانها العرب، حيث وجدت نفسها محكومة بالانتداب البريطاني ثم مزقت أراضيها إعلانات تأسيس دولة إسرائيل. هذا التخلي والإجحاف لا يظل فقط طعنة في قلب الشعب الفلسطيني فحسب، بل طعنة أشد وطأة في قلب الشعوب العربية، إذ تعكس النكبة أشد لحظات الخيبة في الذاكرة العربية الحديثة.
لذلك، لن يتزعزع الحب العربي لفلسطين، ولن ترضى الشعوب ما طال الانتظار عن وجود إسرائيل بينها، ففلسطين ليست مجرد مساحة جغرافية، بل هي فصل حي من فصول التاريخ الإنساني، محفور في ذاكرة كل عربي، إنّ تمسك الشعوب العربية بفلسطين لا ينبع فقط من مشاعر التضامن أو الواجب الديني أو القومي، بل يستمد جذوره من إيمان راسخ بالعدالة والحق في الحياة، هو تمسك بقصة بقاء وصراع، بألم وأمل، وبحلم يتجدد مع كل فجر يطل على هذه الأرض الطيبة. ففي كل زاوية من زوايا فلسطين، وفي كل نبضة من نبضات قلوب أبنائها، يعيش جزء من روح كل عربي، يتجدد العهد والوعد بأن فلسطين ليست وحدها، بل هي في القلب والوجدان، أرضاً وشعباً وحكاية لا تنتهي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]