بين الفن والسياسة.. السينما العراقية كساحةٍ للتعبير عن مستقبل أفضل

عربي بوست
تم النشر: 2024/01/28 الساعة 11:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/01/28 الساعة 11:20 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية - shutterstock

تقف السينما العراقية على مفترق طرق، حيث يتناوب التاريخ والتحولات السياسية على تشكيل هويتها الفنية، ويمكن فحص هذه الرحلة من خلال عدة مراحل، تُظهر كيف تأثرت بالأوضاع السياسية، وكيف حاول الفنانون التعبير عن واقعهم الاجتماعي.

خلال الأربعينيات من القرن الماضي شهد العراق نهضةً فنيةً ملحوظةً، خصوصاً في مجال السينما، حيث تجلى ذلك في مبادرات رائدة لبناء صناعة سينمائية بالتعاون الوثيق مع السينما المصرية الرائدة آنذاك. هذه الحقبة تميزت بتوليفة فريدة من الإنتاج السينمائي، كان من أبرز معالمها أفلام مثل "ليلى في بغداد" و"القاهرة بغداد"، التي لم تكن مجرد مشروعات ترفيهية، بل كانت تجسيداً للتلاقي والتفاعل الثقافي بين العراق ومصر.

وفي الخمسينيات بدأت مجموعة من المخرجين العراقيين تشكيل قاعدة للسينما العراقية، حيث تصدَّرت أعمال للمخرج والكاتب العراقي عبد الجبار توفيق، والمخرج كاميران حسني، الساحة الفنية بأفلام مثل "من المسؤول؟" و"سعيد أفندي". لكن مع تغير الديناميكيات السياسية وتولي حزب البعث السلطة تأسَّست "المؤسسة العامة العراقية للسينما والمسرح"، ورغم إنجاز بعض الأعمال السينمائية المتميزة فقد اتسمت تلك الفترة بأجواء سياسية مشحونة ورقابة مشددة.

تطور المشهد في السبعينيات، حيث استمرت السينما في لعب دور بارز في تصوير وتعزيز الرؤية السياسية للدولة. ومع ذلك استطاع مخرجون بارزون مثل قاسم حول تجنب تلك القيود، فقد استطاع التعبير عن رؤى فنية متفردة، من خلال تناول قضايا خارجية، كما تجلَّى في أعمال مثل "بيوت في ذلك الزقاق".

في الفترة اللاحقة شهدت السينما العراقية ظهور أفلام تعبر بجرأة عن الواقع السياسي والاجتماعي، فظهرت أعمال مثل "أحلام" و"ابن بابل" للمخرج محمد الدراجي، استطاعت تقديم رؤية فنيه حديثة، لكن مع غياب الملكية الفنية لم تتمكن هذه الأعمال من تحقيق النجاح الكبير الذي تستحقه في الساحة الفنية.

تمر السينما العراقية حالياً بفترة تحديات بالغة، سواء أكانت فنية أو مالية، مع توقف بعض المهرجانات التي كانت داعمة للإنتاج العراقي يواجه الفنانون صعوبات جمة في الحصول على التمويل اللازم وفي إظهار رؤيتهم الفنية بشكل كامل. بالإضافة إلى ذلك تُشكل الظروف الاقتصادية والسياسية المعقدة في العراق حاجزاً إضافياً أمام استقلالية وإبداع المشروعات السينمائية.

رغم التحديات تظهر بعض الأفلام الحديثة التي تتعامل بشكل جريء مع القضايا الاجتماعية والسياسية، حيث يبرز فيلما "أوديسا عراقية" لسمير جمال الدين، و"الرحيل من بغداد" لقتيبة الجنابي، كأمثلةٍ على تلك الأعمال التي تسعى للتعبيرعن حقيقة الحياة في ظل التحولات المتسارعة.

مع التقدم المستمر في مجال التكنولوجيا أصبح بإمكان المخرجين الشباب إنتاج أفلامهم بميزانيات أقل، ومع ذلك لا يزال البحث عن التمويل المناسب والإرشاد الفني المتخصص يمثل تحدياً بارزاً. هذا يسلط الضوء على الحاجة الملحة لوجود هياكل دعم متينة، سواء أكانت حكومية أو خاصة، لتعزيز المواهب الصاعدة وتشجيع الإبداع في المجال السينمائي.

في ظل التغيرات السياسية والاقتصادية التي يمر بها العراق قد تبرز فرص جديدة للسينما العراقية، وعلى الرغم من المصاعب الراهنة يبقى الفنانون العراقيون قادرين على استغلال هذه المرحلة التحوّلية، لتناول موضوعات أكثر عمقاً، ولترسيخ هويتهم الفنية بشكل أكثر تحديداً وقوة. ويلعب التواصل مع المجتمع الفني الدولي دوراً حيوياً، فمن خلال المشاركة في المهرجانات الدولية وورش العمل يمكن أن تفتح أفقاً للتعاون وتبادل الخبرات، ما يُسهم في إثراء السينما العراقية بالتأثيرات والأساليب الفنية المتنوعة.

في هذا العبور الزمني عبر تاريخ السينما العراقية نجد أنها تمثل بحق مرآةً تعكس تقلبات وتحولات العراق الراهنة والمعقدة، وكيف يستمر الفنانون في تقديم رؤاهم، والتعبير عن هموم مجتمعهم، في مواجهة التحديات والضغوط السياسية والعقبات الاقتصادية. واليوم تواجه السينما العراقية الحاجة الملحة لتعزيز الدعم المالي، وتحسين البنية التحتية، مع الاستمرار في التفاعل الفعّال، ومواكبة الساحة الدولية. بروح الإصرار والإبداع يمكن للسينما العراقية أن تحمل رسالة عميقة إلى المستقبل، من خلال المساهمة في تشكيل وجدان وحكاية وطن أكثر تلاحماً ووحدة، يبث الأمل في الشعب.

تظل السينما العراقية قادرةً على احتلال موقع فريد لتروي قصة وطنها، لذلك في ظل التحولات الحالية يتعيَّن عليها أن تتكيف وتتطور لتلبية تطلعات جيل جديد من المبدعين والجمهور، فهي ليست مجرد وسيلة لتسجيل الأحداث، بل هي فن يعبر عن رؤى وآمال الشعب العراقي، في ظل تحولاته وتحدياته المستمرة.

تقف السينما العراقية اليوم على أعتاب فرصة فريدة لسرد قصة الوطن بأسلوب فريد ومؤثر، وفي ضوء التغيرات الجارية يتعين عليها التكيف والتطور، لتلبية طموحات جيل جديد من المبدعين والمشاهدين. فهي ليست مجرد وسيلة لتسجيل الأحداث، بل هي فن يعبر عن رؤى وآمال الشعب العراقي في ظل تحولاته وتحدياته المستمرة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ضياء سعد
كاتب وروائي عراقي
تحميل المزيد