بعد توجه جمهورية جنوب أفريقيا، بمبادرة منها، إلى محكمة العدل الدولية قبل حوالي شهر لمقاضاة إسرائيل لانتهاكها اتفاقية الأمم المتحدة بشأن منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها الموقّعة عام 1948، وذلك خلال هجماتها على الأراضي الفلسطينية. عقدت محكمة العدل الدولية أولى جلسات الاستماع في القضية وبعثت قرارات المحكمة الأمل حول العالم في وقف المجازر الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني بعد أن قدمت جنوب أفريقيا لائحة اتهام مُكوّنة من 70 صفحة مدعومة بـ 700 صفحة من الوثائق. أمرت المحكمة إسرائيل باتخاذ إجراءات لمنع حدوث الإبادة الجماعية من خلال الامتناع عن جميع أعمال القتل والعدوان والتدمير في الأراضي الفلسطينية. لفتت اللغة التي استخدمتها المحكمة، وكذلك قراراتها، انتباه الرأي العام الدولي إلى المجازر المرتكبة من جانب إسرائيل في فلسطين. لذا، ستواجه إسرائيل على ما يبدو موقفاً أصعب في تعاملها مع القضية الفلسطينية بعد قرارات محكمة العدل الدولية.
الأوامر القضائية المتخذة من جانب محكمة العدل الدولية
بينما أشارت المحكمة إلى أن العمليات العسكرية الإسرائيلية في فلسطين قد أسفرت عن مقتل عدد ضخم من المدنيين وتدمير البنية التحتية ونزوح أعداد كبيرة من السكان، فقد وصفت الأحداث في فلسطين بأنها مأساة إنسانية وأعربت عن قلقها العميق. علاوة على ذلك، وفقاً للمادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، يمكن تعريف الشعب الفلسطيني على أنه مجموعة عرقية ودينية وتُشكّل العمليات العسكرية في فلسطين خطراً مباشراً عليه. يجوز للمحكمة في مثل هذه الحالات فرض تدابير مؤقتة لشعورها بالقلق من أن البت في القضية المرفوعة سيستغرق وقتًا طويلاً وأن الدمار الإنساني والأضرار المثيرة للقلق غير القابلة للإصلاح سوف تتواصل في هذه الأثناء. بناءً عليه، في هذه القضية، أمرت محكمة العدل الدولية إسرائيل بالامتثال للأوامر القضائية، التي تشمل اتخاذ كافة التدابير الفورية لمنع ارتكاب قواتها أي أعمال إبادة جماعية؛ وضمان الوصول إلى الاحتياجات الأساسية والمساعدات الإنسانية مثل الغذاء والماء والوقود وما إلى ذلك؛ ومحاسبة أولئك المتورطين في أعمال الإبادة الجماعية؛ وتقديم تقارير منتظمة إلى محكمة العدل الدولية بشأن تنفيذ تلك التدابير. يمكن اعتبار هذه التدابير الوقائية بمثابة قرارات مُتّخذه في المرحلة الأولى من المحاكمة ومن المتوقع صدور قرارات تخص موضوع القضية في المراحل اللاحقة من المحاكمة. على الرغم من أنَّ البعض انتقد عدم إصدار المحاكمة قراراً بوقف إطلاق النار، لم يكن من المتوقع صدور هذا القرار في المقام الأول. سوف يحتاج تحقيق وقف إطلاق النار إلى عملية تدريجية. لذلك، فإنَّ قرارات محكمة العدل الدولية يمكن اعتبارها خطوة مهمة في النضال الفلسطيني العادل رغم أنها لا تتضمن قراراً مباشراً بوقف إطلاق النار.
ردود الفعل على قرارات محكمة العدل الدولية
في أعقاب أحكام محكمة العدل الدولية بشأن ما يحدث في فلسطين، لفت الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الانتباه إلى أنَّ قرارات محكمة العدل الدولية ملزمة لجميع الأطراف. أود التذكير هنا بأنَّ تصريحات غوتيريش السابقة في الأمم المتحدة قدمتها جنوب أفريقيا إلى المحكمة ضمن أدلة إثبات ما يحدث في فلسطين. أظهر ذلك أنَّ تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي لا يراها كثيرون ذات قيمة كبيرة، قد تكون مفيدة حقاً. بالمثل، التصريحات التي أدلى بها وزراء ومسؤولون إسرائيليون، التي كانت خطاباً تحريضياً على الإبادة الجماعية وعبَّرت بوضوح عن الفظائع المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني، استُخدمت أيضاً دليلاً ضد إسرائيل. ستكون مثل هذه التصريحات والإجراءات مهمة للغاية عندما تبدأ جلسات المحاكمة في مراحل لاحقة من القضية.
في المقابل، لاقت قرارات محكمة العدل الدولية إدانة شديدة من الجانب الإسرائيلي. أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن بلاده لها الحق في الدفاع عن نفسها وحرمانها من هذا الحق يُعد تمييزاً ضد الدولة اليهودية. بالمثل، انتقد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت قرارات محكمة العدل الدولية، قائلاً إنَّ إسرائيل لا تحتاج إلى درس أخلاقي وإنَّ ادّعاء جنوب أفريقيا بالإبادة الجماعية هو معاداة للسامية، وأكد مرة أخرى أنَّ إسرائيل ستواصل العمل من أجل التفكيك الكامل للبنية العسكرية والسياسية لحماس وعودة الرهائن.
ومع ذلك، كان هناك رد فعل واسع النطاق داخل إسرائيل ضد نتنياهو في أعقاب قرارات محكمة العدل الدولية. بعث أكثر من 40 من رجال الأعمال والأكاديميين ومسؤولين أمنيين كبار سابقين، من بينهم 2 من رؤساء الأركان السابقين و3 حائزين على جائزة نوبل، رسالة إلى الرئيس الإسرائيلي يطالبون فيها بإقالة نتنياهو من منصبه لأنَّه يُشكّل تهديداً وجودياً لإسرائيل.
من جانبه، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يدعو منذ فترة طويلة إلى وقف إطلاق النار، أنَّ تركيا تواصل العمل بكل قوتها من أجل وقف إطلاق النار وتحقيق السلام الدائم، وأنَّ بلاده ترحب بقرارات المحكمة وستواصل الوقوف إلى جانب فلسطين. بالإضافة إلى ذلك، رحبت دول مثل إيران وباكستان وأسبانيا بقرارات محكمة العدل الدولية.
ماذا يحدث إذا لم تُنفَّذ قرارات محكمة العدل الدولية؟ ماذا أظهرت القضية ضد روسيا؟
قرارات محكمة العدل الدولية ملزمة لكل دولة وَقّعت على اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. هذا يعني أنَّ الامتثال لأوامر محكمة العدل الدولية بشأن فلسطين هو مسؤولية جميع الدول الأطراف الموقعة على الاتفاقية. ومع ذلك، فإنَّ الطبيعة الملزمة للأحكام لا يترتب عليها عقوبات جزائية في حال عدم التنفيذ لأنَّ محكمة العدل الدولية ليس لديها آلية فرض جزاءات. من الممكن ألا تلتزم إسرائيل بقرارات محكمة العدل الدولية، تماماً كما فعلت روسيا مع قرارات محكمة العدل الدولية بشأن أوكرانيا. ومع ذلك، في هذه المرحلة، ثمة بعض الاختلافات بين قضيتي روسيا وإسرائيل.
أولاً، يجب التأكيد على أن أحد التأثيرات المهمة لقرارات محكمة العدل الدولية يتمثّل في قيمتها لدى الرأي العام الدولي. لذا، فإن إدانة محكمة العدل الدولية لدولة ما بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية -على الرغم من عدم امتلاك المحكمة سلطة فرض جزاءات- من شأنه أن يدفع كافة الدول، سواء كانت أطرافاً في الاتفاقية أم لا، إلى إعادة النظر في علاقاتها مع تلك الدولة المُدانة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية. ينطبق الوضع نفسه على التدابير المؤقتة الصادرة عن المحكمة. قد تعاني الدول التي لا تلتزم بتنفيذ تلك التدابير من فقدان هيبتها ومكانتها وتصبح معزولة وقد تتدهور علاقاتها مع دول أخرى، وذلك لأن محكمة العدل الدولية جزء مهم من النظام الدولي الليبرالي والمضي قدماً في مسار يتعارض مع قرارتها يمكن اعتباره معارضة للنظام الدولي الليبرالي نفسه. تحمل قرارات محكمة العدل الدولية مثل هذا المعنى، لاسيما بالنسبة للدول الغربية. يمكن القول إنَّ روسيا لم تمتثل للقرارات الصادرة عن محكمة العدل الدولية في الدعوى المقدمة إليها من جانب أوكرانيا بشأن انتهاك روسيا اتفاقية الإبادة الجماعية، على غرار الدعوى المقدمة من جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في فلسطين. في هذه الحالة، كان من المتوقع عزل روسيا، لاسيما من جانب الدول الغربية المدافعة عن النظام الدولي الليبرالي. لكن روسيا باتت معزولة بالفعل من الغرب منذ بداية الحرب الأوكرانية. إذا نتذكر، تجسَّد أول رد فعل ملموس على الحرب الروسية في أوكرانيا في طرد روسيا من مجلس أوروبا. بناءً عليه، لم يعد لدى روسيا ما تخسره إذا لم تمتثل لقرارات محكمة العدل الدولية. لكن الوضع مختلف بالنسبة لإسرائيل. بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، بدأ الخطاب الداعم لإسرائيل، التي حظت بدعم علني مطلق من غالبية الدول الغربية، في التراجع مع تزايد ردود أفعال المجتمع الدولي. لذا، فإنَّ إسرائيل، على عكس روسيا، لديها الكثير لتخسره إذا لم تمتثل لقرارات محكمة العدل الدولية.
ثانياً، رفعت أوكرانيا بنفسها دعوى لدى محكمة العدل الدولية، باعتبارها طرفاً في النزاع، بشأن الانتهاكات الروسية على أراضيها. لكن دعوى فلسطين لدى محكمة العدل الدولية رفعتها جمهورية جنوب أفريقيا، وهي دولة لا ترتبط مع الشعب الفلسطيني بعلاقات من حيث الدين أو اللغة أو العرق أو الجغرافيا وليست طرفاً في النزاع، ومن ثمَّ هي دولة محايدة. يحمل هذا الأمر قيمة وأهمية كبيرة في كيفية رؤية المجتمع الدولي للقضية.
علاوة على ذلك، يحمل اتهام جنوب أفريقيا لإسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، وهي نفسها دولة عانت من التمييز العنصري والجرائم ضد الإنسانية لسنوات طويلة حتى تغلبت على نظام الفصل العنصري بوسائل سلمية وديمقراطية، دلالة وقيمة خاصة. لذا، فإن الدعوى المقدمة من جنوب أفريقيا لدى محكمة العدل الدولية تختلف في كيفية تعامل الوعي العالمي معها عن الدعوى المرفوعة من أوكرانيا لدى نفس المحكمة.
أخيراً، كما ذكرت أعلاه، لا تمتلك محكمة العدل الدولية بذاتها سلطة فرض عقوبات في حالة عدم الامتثال لقراراتها. يعتبر مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة السبيل الوحيد لظهور تلك السلطة. تُبلّغ محكمة العدل الدولية مجلس الأمن بقراراتها وتستطيع أيضاً، إذا رغبت في ذلك، تقديم توصيات إلى المجلس. بدلاً من ذلك، يمكن لإحدى الدول الأطراف تقديم شكوى إلى مجلس الأمن لحدوث عدم امتثال للأوامر القضائية الصادرة عن محكمة العدل الدولية. إذا رأى مجلس الأمن ضرورة لذلك، يمكنه تقديم توصيات أو تحديد التدابير الواجب اتخاذها (التي قد تشمل فرض عقوبات).
ومع ذلك، روسيا هي بالفعل عضو دائم في مجلس الأمن الدولي وتتمتع بحق النقض. بناءً عليه، فإنَّ الطريق الوحيد لتنفيذ عقوبة عدم الامتثال لقرارات محكمة العدل الدولية -مجلس الأمن- مغلق في حالة روسيا. لكن في حالة إسرائيل، يعتبر الطريق إلى صدور قرار من مجلس الأمن يقضي بفرض عقوبات مفتوحاً من الناحية الفنية، حتى وإن كانت إسرائيل تعتمد على الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الشأن. على الرغم من ضعف هذا الاحتمال، لكنه ليس مضموناً تماماً كما هو الحال بالنسبة لروسيا.
وختاماً، قد تُشكّل قرارات محكمة العدل الدولية أمس بداية انطلاق عملية مفاوضات وحوار بين إسرائيل وفلسطين، وهما أمران مهمان للغاية لإحلال السلام، حتى لو استمرت الحرب. من ناحية أخرى، تحظى قرارات محكمة العدل الدولية بقيمة كبيرة في عين المجتمع الدولي ورفض إسرائيل الالتزام بها سيؤدي إلى انتهاء الدعم العلني المباشر لإسرائيل وتراجع الدعم غير المباشر.
علاوة على ذلك، إذا أُدينت إسرائيل في موضوع القضية الخاص بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، فإنَّ هذه الإدانة ستنهي فعالية خطاب "المحرقة اليهودية" (الهولوكوست) الذي ظلت إسرائيل تختبئ وراءه لسنوات وترتديه مثل الدرع كلما تورطت في مأزق؛ وستزيد بدرجة كبيرة أيضاً من هيبة القضية الفلسطينية والزخم الداعم لها. على الرغم من أنَّ هذه المحاكمة ستستمر على الأرجح لسنوات عديدة، أعتقد أنَّها ستحمل تداعيات كبيرة على القضية الفلسطينية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.