مضت ثلاثة عشر عاماً على ما اتفقنا على تسميته بـ"ثورة 25 يناير". أفرزت هذه الثورة، من بين ما أنتجت، استقطاباً سياسياً مستمراً حتى اليوم، ومن المتوقع أن يستمر في المستقبل. هناك من يرى أن الثورة كانت نافذةً لبناء مجتمع جديد؛ حداثي، ديمقراطي، وأكثر عدلاً، يُرسخ كرامة المواطن. وفي المقابل، هناك من يرى أن الثورة لم تكن إلا انفلاتاً في الشارع، دفع الشعب ثمناً له من أمنه وقوته. بل إن فريقاً من هؤلاء الآخرين يُعلق على الثورة تبعات كوارث الماضي القريب، بما في ذلك انهيار العملة المصرية، وتفاقم الديون، وفشل الجهاز الإداري للدولة، والتعديات على الأراضي الزراعية، ومخالفات البناء، واختلال الأمن، وانفجار الإرهاب والفتنة الطائفية، وتفشي الرجعية السياسية والدينية.
حتى مصطلح "الربيع العربي" صار مزحة للتدليل على الخراب والإفلاس الاقتصادي والسياسي، الذي أتى به هذا الربيع! دعونا نطرح سؤالاً منطقياً للولوج إلى مجادلة أعداء الثورة: هل كانت أنظمة الحكم، وعلى رأسها نظام المجنون معمر القذافي، والديكتاتور بشار الأسد، والديكتاتور علي عبد الله صالح، والديكتاتور زين العابدين بن علي، وحتى شيخ الديكتاتوريات حسني مبارك، كانت أنظمة قابلة للاستمرار والبقاء والتمدد؟ إذا كانت إجابتك نعم، فأرجوك لا تكمل القراءة، واذهب للإقامة في أبراج العلمين الجديدة!
أما إذا كانت إجابتك لا، فالسؤال التالي هو كيف يمكن أن يحدث التغيير؟ أنظمة ما بعد التحرر من 'الاستعمار' كانت أشد قسوة من الاستعمار نفسه في التمسك بالسلطة، ومع مرور الوقت، أصبحت أكثر استماتة في الدفاع عن مكتسباتها الطبقية والطائفية والفئوية، حتى وصل الأمر إلى حد ارتكاب جريمة الحرب الأهلية. ليبيا وسوريا واليمن لا تزال تعاني من تداخل أنظمة الحكم مع معادلات طائفية وقبلية وتحالفات دولية، من أجل البقاء في قمة الهرم السياسي، حتى وإن كان الهرم مجرد أطلال لوطن من عظام وجماجم أبنائه وبناياته المدمَّرة.
كانت تونس ومصر من أكثر الدول العربية نجاحاً في ترسيخ مفاهيم الدولة الحديثة، بعيداً عن القبائلية أو الطائفية. ومع ذلك، فإن كلا المجتمعين يتسمان بالمحافظة السياسية بناءً على التجربة العملية، ويسودهما تيار غالب موالٍ للسلطان الحاكم، سواء فقهياً أو سياسياً أو مصالحياً. في تونس، أدت الانتخابات الحرة إلى انتخاب القائد السبسي رئيساً منتخباً ديمقراطياً في سن تجاوز الثمانين، وهو الذي قد قضى عمره في بناء ديكتاتورية الحبيب بورقيبة. وكانت الأغلبية البرلمانية الأولى لتحالفات من حزب الديكتاتورية (حزب بورقيبة) أقرب ما يكون الائتلاف، وهو حزب نداء تونس، وهو حزب الائتلاف الذي تشتت في الانتخابات اللاحقة. وأصبح حزب جماعة الإخوان (النهضة)، الذي جاء وصيفاً في عام 2014، حزب الأغلبية، ليرجع الحزب الدستوري (البورقيبي) أكبر الأحزاب المعارضة، حتى لا أطيل عليكم، استطاعت قوى الدولة العميقة في تونس إعداد 'رسول الديكتاتورية الشعبوية'، متمثلاً في قيس سعيد، الذي أنهى عملياً الديمقراطية الوليدة في تونس، مدمراً الدستور والبرلمان وكل التحصينات الممكنة للتوجه نحو مستقبل ديمقراطي وحداثي.
في مصر، التي تُعدّ أقل علمانية من تونس، والتي تعاني من نظام تعليمي على حافة الانهيار الكامل، وفي غياب نقابات عمالية أو مهنية مستقلة، بدت الطريق منذ يوليو 2011 ممهدة لسيناريو شبيه بالأفغاني/الباكستاني، وأزعم أن انتفاضة يناير 2011 لم تكن لتحدث لولا نية وتخطيط المجلس الأعلى للقوات المسلحة للتخلص من مبارك، خوفاً من تولي جمال مبارك (المدني) السلطة. دولة حسني مبارك، في عقدها الأخير، اعتمدت بشكل كبير على قوى الأمن الداخلي في تنافس محموم مع القوات المسلحة. لذلك، كانت من بين أهم الخطوات في إسقاط دولة مبارك تدمير مباحث أمن الدولة، ومن ثم سيطرة الأخيرة على الأولى. بينما كنت مع المتفائلين بانتفاضة الشعب المصري، وتحديداً الطبقات الحضرية الشابة، التي نادت بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، كانت 'المؤسسة المقدسة'، التي تحكم منذ يوليو/تموز 1952، تعد الساحة للعودة إلى صدارة المشهد السياسي وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه في مارس/آذار 1954.
جماعة الإخوان المسلمين، التي كانت تُعدّ أكثر الأحزاب السياسية تنظيماً وتجذراً في المشهد السياسي المصري، ظنت أن بإمكانها التفاوض أو التفاهم مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة على السلطة، وعلى الرغم من تصريحات قادتها وقادة حزبها 'الحرية والعدالة' بأن مارس 1954 لن يتكرر، وأنهم استوعبوا الدرس جيداً، إلا أن مارس 1954 تكرر بالفعل في يونيو 2013، سائرين كالمجذوبين إلى فخ عودة الديكتاتورية العسكرية. بينما كانت الأحزاب المدنية الجديدة والقديمة عانت وما زالت، من الاختراق من قبل الأجهزة الأمنية القديمة والجديدة، ومن هشاشة بنيوية ناتجة عن طول فترة الاستبداد والاحتكار السياسي، أما عن جبهة الإنقاذ، التي كانت معارضة لنظام حكم الإخوان، بالتعاون مع الأزهر والكنيسة القبطية، كانوا في الواقع مجرد كومبارس في مسرحية باهتة لإعادة تسليم مفاتيح السلطة.
أما عن الاتهامات الجاهزة بأن الثورة كانت من تدبير قوى خارجية (صليبية، ماسونية، صهيونية) هي في الواقع انعكاس لمرآة النظام الذي تأسس في يوليو 2013، أو نظام قيس سعيد في تونس. وفي السياق العربي، كانت القوى العربية المحافظة/الحداثية الناجحة في الخليج، كانت من أكثر اللاعبين فعالية في إقامة أو إسقاط الأنظمة السياسية في دول الربيع العربي، بل إن أنظمة دول الربيع الباقية أو الآتية جديداً، كلها ودونما استثناء تقوم على الاستجداء والاعتماد على تلك الدول الخليجية، إلى جانب اللاعبين الكبار، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا.
إن جزءاً كبيراً من مصاعبنا الاقتصادية اليوم في مصر يعود إلى تكلفة شراء شرعية الانقلاب العسكري الناعم، والتي بلغت مليارات الدولارات من الأسلحة الفائقة التي نعجز مالياً عن إدارتها أو تشغيلها. وهذه هي صورة الكابوس الناصري المتجدد، من غواصات وحاملات هليكوبتر وفرقاطات وطائرات نفاثة ومفاعل نووي. وقد كان هذا نصيب الغرب، بينما الشرق، الذي دفع مقدماً 60 مليار دولار لنظام يوليو الثاني، آملاً في مشاركة مصر في حرب اليمن، لم يحقق الاستثمارات المتوقعة، بل اضطر لدعم الحكومة المصرية مجدداً بعشرات المليارات من الدولارات لمنع انهيار الجنيه المصري، عبر منح أو ودائع لدى البنك المركزي، وعندما حان وقت استحقاق الودائع، اضطرت الحكومة لبيع المصانع والموانئ والشركات والمصارف كبديل عن رد الأموال.
لقد وصل نظام يوليو الأول إلى الإفلاس الفعلي في عام 1965، الآن، وربما يعترض مجاذيب يوليو الأول و الثاني على ذلك التشبيه، فقد تشبيه الرئيس السيسي مؤخراً بأريحية شديدة أن الثورة يناير كانت كهزيمة 1967، وأن التعافي من آثار العدوان استغرق 14 عاماً حتى 1981. فطبقاً للتاريخ السيساوي الجديد، يبدو أن أمامنا عامين آخرين للخلاص من آثار الثورة. فهل يا ترى سيحدث كما حدث في عام 1981؟!
بلا شك، سندفع ثمن قبولنا للاستبداد والديكتاتورية، وذلك عبر هزائم حضارية، فشل في التعليم ونظام الصحة، ووجود جهاز حكومي هائل مشلول ومكلف. سنحمل عبء جيش جبار لا نستطيع تحمّل نفقاته، وداخلية نافذة ومتسلطة تخضع لغير القانون. سنتنازل عن سيادتنا، وسنسمح بنفوذ خارجي للقوى الكبرى والصغرى، فاقتصادنا متأزم والعملة المحلية في انهيار، وستتآكل القدرة الشرائية لكل المواطنين، ونحن صامتون.
في النهاية ستظل ثورة 25 يناير، كطاقة للحلم والأمل، داعية للعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.