في الثالثة عشرة من عمره، شاهد محمود، والده الذي كان يُدعى حسن يُفارق الحياة أمام عينيه، وللصدفة أن الوالد ترك وصية لمحمود حسن، الذي سيتحول اسمه بعد أعوام إلى محمود حسن تريزيجيه، يُوصيه فيها بأن يُغيّر مسار الأسرة!
خرج محمود حسن من أسرة متوسطة أو أدنى، لكنه كان قنوعاً للدرجة التي جعلته يُحاول بشتى الطرق تغيير هذا المسار الطبقي من خلال أقدامه، هو من الوجوه التي ترتاح للنظر إليها، تبدو عليه أمارات الشاب الريفي المجتهد، الذي يصل من الريف إلى المدينة حاملاً هدفاً في رأسه، لن يُحاذيه أبداً، مهما كانت الإغراءات.
كانت فكرة محمود حسن تريزيجيه أن يُسكن إخوته في "عماير" باللفظ العامي المصري كما أوصاه والده في لحظة وفاته، وكانت غايته أن يُريح أسرته من عناء الظروف المعيشية الصعبة، تماماً كما أوصاه والده.
كانت رحلة محمود حسن تريزيجيه من محافظة كفر الشيخ إلى القاهرة تستدعي اقتراضه بعض المال من إخوته، هو نفسه من كان أصغرهم، لكن لسبب أو لآخر، قرر والده أن يختصه دونهم بهذه الوصية الثقيلة على فتى لم يكن يبلغ إلا 13 عاماً.
ابتسمت له الدنيا بالتواجد في صفوف النادي الأهلي المصري، وكما يُشاع، فإن الحظ لا يأتي إلا للمجتهدين، لكن من الواضح أن محمود حسن تريزيجيه لم يكن مجتهداً ولم يكن محظوظاً فحسب؛ بل كان مُكافحاً في الوقت نفسه، وكان يعرف مدى صعوبة الرحلة التي تستوجب منه أن يكون طوال الوقت مُنتبهاً لمستقبله.
انضم محمود حسن تريزيجيه إلى مراكب الهجرة، الشرعية منها، التي اجتاحت مصر في العقد الأخير، وخرج من النادي الأهلي المصري وطاف في بقاع قارة أوروبا، وكان دائماً في أوج فترات التركيز من أجل الذهاب بالمستقبل إلى أبعد مدى، وكان في الوقت نفسه يُحاول طوال الوقت أن يكون قوياً لمواجهة الظروف القادمة، التي ستطرأ عليه.
معجزة ليستر سيتي
حتى وصل إلى إنجلترا، الدوري الإنجليزي كان حينها البوابة الأكبر في مسيرة تريزيجيه حتى الآن، في نصف نهائي كأس الرابطة الإنجليزية المحترفة منذ حوالي 5 سنوات، كان ليستر سيتي على مقربة من الوصول للمباراة النهائية للبطولة.
لم تكن جماهير ليستر سيتي تعلم مدى إيمان محمود حسن تريزيجيه بنفسه وبقدراته، حين أفشى اللاعب المصري أحمد المحمدي سراً طريفاً بخصوصه قبل لقاء الإياب؛ حيث سأل تريزيجيه المحمدي: كم مرة لعبت النهائيات في ملعب ويمبلي؟ فأجاب المحمدي: 6 مرات. فكان رد تريزيجيه: الليلة ستكون السابعة إن شاء الله!
لكن في الدقيقة 77، حل محمود تريزيجيه بديلاً، في مباراة كان فيها نادي ليستر سيتي قد سدد ذهاباً وإياباً 43 تسديدة كاملة على مرمى الفيلا، وحلول تريزيجيه كبديل لم يكن سيُغير في منظور جماهير ليستر سيتي أي شيء من قوة وطغيان فريقهم.
في الدقيقة الثالثة من الوقت بدل الضائع، دخلت الكرة في الشباك فخرج معها ليستر سيتي من البطولة رغم طغيانه، وكان لشوكته أن تنكسر بسبب المصري محمود حسن تريزيجيه، الذي أوصل أستون فيلا ليلتها لنهائي كأس الرابطة الإنجليزية المحترفة لأول مرة منذ 10 سنوات، وكانت هذه الليلة وحدها كافية وكفيلة بأن تشهد نهايتها حمله على أعناق الأنصار، والاحتفاء به كأن الفريق قد حقق اللقب مُسبقاً!
محمود حسن تريزيجيه.. رجل الظل
قد تكون مسيرة محمود حسن تريزيجيه مُبهمة في الأندية التي لعب فيها؛ كونه قد لعب لأندية كثيرة لم يكن نجمها الأول ولم يسعَ إلى ذلك، لكن من الواضح أنه كان يرغب في نيل الشرف الأكبر!
لعب محمود حسن تريزيجيه مع منتخب مصر في جميع البطولات الدولية منذ مثوله للخدمة الوطنية، وفي كل المشاركات التي خاضها لم يكن مُلاماً، لا في السراء ولا حتى في الضراء؛ يعني أنه لم يكن يُقصّر في أي شيء إطلاقاً في جميع النواحي.
على أعتاب الصقيع في روسيا، كان لا بد من أن تُشرق شمس مصر على أراضي روسيا في بطولة كأس العالم عام 2018، لكن كان المنتخب بحاجة إلى مُبتكر وفدائي، رجل يغوص في الأرجل في اللحظات المصيرية، في تلك المباراة العصيبة أمام منتخب الكونغو في استاد برج العرب.
كان محمود حسن تريزيجيه هو من فعل هذه المهمة، حيث سقط بعد تعادل الكونغو، ولم يشعر الشعب بنفسه إلا مُحتفلاً في الشوارع المصرية بمناسبة الصعود إلى البطولة لأول مرة منذ 28 عاماً.
بالتأكيد ذهبت الأضواء كافة إلى محمد صلاح، وكان محمود حسن تريزيجيه منسياً، كعادة رجال الظل الذين يشعرون بحتمية تقديم هذه الأدوار البطولية، دون انتظار مقابل لها.
لكن كان واضحاً تماماً، أن هذا الإنسان يُحب تمثيل المنتخب الوطني بصورة واضحة، لم يسمع الناس عنه أي خبر قد يُضايقهم، ولم يسمعوا تغطرسه عليهم رغم رحلة احترافه، كما لو كان محمود حسن تريزيجيه قد ذهب إلى الخارج بثيابه البسيطة وشخصيته المتواضعة ولكنته الريفية التي جعلت جاك جريليتش يصفه في مرة من المرات بأنه الفلاح الذي يُحب.
في البطولة الأفريقية عام 2024 في ساحل العاج، أثبت محمود حسن تريزيجيه نفسه مجدداً، هذه المرة في لحظة كاد المنتخب المصري أن يُغادر فيها البطولة من الدور الأول، وهذه اللحظة كانت الأسوأ بالنسبة للمنتخب المصري، وللشعب المصري كذلك.
الشعب المصري الذي بات مُنقسماً ضد منتخبه، وسئم الفشل والتعالي والغرور الذي يتمتع به بعض قادة المنتخب، وعلى رأسهم نجمه المحترف محمد صلاح، الذي بات يتعرض لانتقادات لاذعة بحكم فشله في تقديم نفس ما يُقدمه لليفربول في صفوف المنتخب المصري.
مع عمر مرموش ومصطفى محمد، ظهر محمود حسن تريزيجيه من العدم، من بنك الاحتياط كورقة رابحة، يُحدث المشكلات في دفاعات الفرق الأفريقية، يجلب التعادل الصعب لمنتخب مصر أمام منتخب غانا في اللقاء الثاني بعد أن كان المنتخب على أعتاب خسارة النقاط الثلاث، وأيضاً تلاشي حلم الصعود.
ثم يحل بديلاً من جديد في لقاء الرأس الأخضر، اللقاء المصيري، ويضع قلبه قبل قدمه في كل كرة؛ فيُسجل هدفاً ويصنع الآخر، ويمنح منتخب مصر نقطة درامية تؤهله وصيفاً للمجموعة بأعجوبة، لولاه ما كان هذا السيناريو الغريب والدرامي ليحدث!
لكن ما يأسرك في كل هذه التفاصيل؛ هي الشخصية البسيطة، احتفالاته منطقية نظراً لمجهوده، لكن الإنسان لا يستطيع تسويق نفسه ليسرق الأضواء، ولا يشحذ المدح من وسائل الإعلام المصرية ولا الصحافة نفسها، لكنه يفعل كل شيء بُحب وإخلاص لا يُمكن أن يكون مصطنعاً.
ثم يخرج من النفق في هدوء، ليصل إلى غرفة الملابس، يتأهب للمباراة القادمة، ولا يهتم بما يُقال عنه ولا حتى ما لا يُقال عنه، نادراً ما يتم ذكر اسمه، ويبقى دوماً على قناعةٍ بأنه يفعل ما تُمليه عليه نفسه؛ من أجل إسعاد العالم بأكمله.
وربما لأنه على قناعة بأنه قد نفذ وصية والده، وغيّر مسار الأسرة بقدمه وقلبه، وسدد الدَّين الذي اقترضه من إخوته مالاً وعملاً، ويشعر بالسعادة لأنه هو نفسه يخرج سعيداً من كل معركة كأنه المُنتصر الوحيد فيها!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.