منذ شهر بدأ عام جديد، أشرق في العالم إلا غزة، تلك البقعة الجغرافية التي يتناساها العالم، حيث تُدفن العائلات بأكملها أطفالاً ونساء وشيوخاً ورجالاً أشلاءً يومياً تحت الركام، منذ أربعة أشهر، بيد الاحتلال، الذي لا يكتفي بقتلهم فقط، بل يداوم على نبش قبور ضحاياهم، بينما يمعن في الإبادة بباقي الأحياء من الفلسطينيين، محاولاً أن يمحو أي وجود لهم في أرضهم، وكل ذلك أمام مرأى ومسمع العالم، بغير حساب، بحجة حقِّ الدفاع عن النفس، ولا أعلم أي قانون أو مبدأ أخلاقي يبرر لأي كيان أن يقتل 30 ألف شخص ويصيب 60 ألفاً آخرين، فقط من أجل أمن نفسه.
أيّ حق يسمح بقتل الأبرياء وقنصهم في الشوارع والطرقات، وحتى المستشفيات وأماكن الإيواء، أيّ قانون يسمح بقصف وقتل الصحفيين رواة الحقيقة عمداً.
غزة مِرآةٌ لبشاعة العالم، فلك أن تتخيل في عصر شديد الاتصال بفضل التكنولوجيا الفائقة، تقبع فيه مدينة في عزلة تامة، فقط لأن المحتل قرَّر أن ينزع أهلها من الوجود، فبدأ منذ أربعة أشهر، بدعم الدول التي تزعم التحضر، يدمّر كل معاني الحياة في تلك الأرض، فتحوَّلت المدينة التي كانت تشعّ بالحياة في أشهر إلى مكان لا يصلح للحياة، فمن شدة وحشية الاحتلال لم يعد حتى للهواء النقي مكان، واختلط بتراب المتفجرات والغازات السامة، واختلطت زُرقة السماء الصافية بسواد الدخان، وكأن الشمس قد فُقدت، ليحلَّ محلها ظلام ملطخ بدم الشهداء.
في تلك البقعة الصغيرة "غزة"، حيث يقطن حوالي 2.3 مليون نسمة، تكشف الحرب واقعاً مريراً سيستمر لسنين، إذ تم تحطيم أحلام أهلها بتدمير منازلهم وجامعاتهم ومدارسهم، وصولاً إلى المرحلة الأخيرة والأكثر خطورة، أسلوب التجويع كأداة عقاب جماعي لكل فئات القطاع المحاصَر، من الأطفال والشيوخ والمرضى، وصولاً إلى الحوامل والأطفال الخدج. الجميع يُعاقَب، في نهجٍ قاسٍ، في عصر كان يظن فيه الجميع أن الجريمة ضد الإنسانية غير مقبولة، ولكن جاءت غزة مفاجئة للعالم بكشف مدى نفاقه، حيث يظل الظلم باقياً.
تكشف الحرب الراهنة عن مفارقة صارخة في المعايير الدولية ومنطق العالم، خاصةً فيما يتعلق بحق الدفاع الشرعي. يُعتبر هذا الحق في سياق القضية الفلسطينية بمثابة ترخيص للاحتلال لإبادة الفلسطينيين، ويستخدمه الاحتلال والدول الداعمة له بكل فجاجة كتبرير لجرائمه الجارية، لكن عندما نأتي لحق تقرير المصير، عندما يتعلق الأمر بفلسطين وحقها في تقرير المصير، الذي هو أيضاً مكفول ومشروع، يتم تجاهله وكأنه غير موجود، بالرغم من تأكيده في القوانين الدولية.
إن الاحتلال ينتهك القوانين والاتفاقيات الدولية المعترف بها بكل أريحية، فهو لا يخشى العقوبة، ما يدفعه ليزداد تغطرساً، فنراه حتى يرفض مقترح حل الدولتين، الذي يُعتبر بحد ذاته حلاً غير عادل للشعب الفلسطيني، كل ذلك أمام صمت العالم.
إن حقَّ الدفاع عن النفس حقٌّ طبيعي وضروري في عالم يسوده العنف والإرهاب، وخاصةً أمام تلك الأفكار شديدة العدوانية، كالإبادة التي كانت عنصراً أساسياً لكل أشكال الاستعمار في العالم، لمنع البشر والدول من الاعتداء على بعضها البعض، وتحويل العالم إلى فوضى دموية، ولكن أليس ذلك ما فلعته المقاومة يوم السابع من أكتوبر، أَوليس هذا حقهم في الدفاع عن النفس أمام احتلال عمره أكثر من 75 عاماً، يرتكب أبشع الجرائم الذي تُنافي كل القوانين بحق الشعب الفلسطيني، لماذا لا يعد ذلك دفاعاً للشعب الفلسطيني عن نفسه؟!، أمام الإرهاب الإسرائيلي الذي يداوم على اعتقال الأطفال، وانتهاك حرمة المقدسات في القدس والضفة، فضلاً عن فرض الحصار على السكان الأصليين للأرض من جميع الجهات، لماذا لم نسمع صوت العالم منذ 75 عاماً؟!
إن عالمنا اليوم تسوده ازدواجية المعايير في اتخاذ القرارات؛ لذا لن نجد تطبيقاً عادلاً للقوانين في عالم كهذا، يهيمن عليه النفاق والكذب، لكن تراودني تساؤلات حول ما كان يمكن أن يحدث لو طُبقت هذه القوانين منذ البداية دون ازدواجية، وعلى ولجميع البشر دون فصل عنصري أو معتقدي، هل كان من الممكن أن يحقق العالم السلام؟
لكن ما تكشفه الحرب اليوم أن المنظمات الحقوقية والأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة غير قادرة على تحقيق السلام، إذ لن تفيد القوانين الحالية أو المستقبلية إذا ظلَّت المصالح فوق حياة البشر.
فالمشكلة ليست في القوانين أو صياغتها، بل في إرادة الدول ومصالحها، حيث تسلك مسارات معقدة، وتضحي بالكثير من أجل مصالحها فقط، لذا لن يتحقق السلام ما لم تُعطَ الأولوية للحقيقة والسلام على إرادة الدول ومصالحها. لقد تبنت الدول لغة المصالح منذ قرون، وإلا لَما شهِدنا احتلال فلسطين، واستعمار أفريقيا، ولَما كان للمجاعة والتشرد وجودٌ في مختلف أنحاء العالم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.