في السياسة الألمانية المعاصرة، بدأت تظهر ازدواجية مذهلة؛ وهي الازدواجية التي تسلط الضوء على صراع الأمة المستمر مع ديناميكياتها السياسية الداخلية والخارجية. فمن ناحية، تواجه ألمانيا مهمة شاقة تتمثل في مكافحة صعود التطرف اليميني داخل حدودها. ومن ناحية أخرى، يبدو أن سياستها الخارجية، خاصة فيما يتعلق بإسرائيل، تدعم سياسات حكومة الاحتلال اليمينية المتطرفة بدون حدود وبكل فجاجة، رغم ما ترتكبه إسرائيل من إبادة جماعية في حق الفلسطينيين في غزة.
صعود اليمين في ألمانيا
وفي السنوات الأخيرة، شهدت ألمانيا عودة مثيرة للقلق لليمين. وترمز النجاحات الانتخابية التي حققها حزب البديل من أجل ألمانيا، خاصة في ألمانيا الشرقية، إلى هذا الاتجاه. إن خطاب حزب البديل من أجل ألمانيا غالباً ما يغازل مشاعر كراهية الأجانب والقومية؛ مما يزعج الدولة التي لا تزال تتصارع مع ظلال ماضيها. ويُعزى هذا الارتفاع إلى عوامل مختلفة، بما في ذلك الانكماش الاقتصادي، والاضطرابات الاجتماعية، والاستياء العام من السياسة السائدة. وتواجه الحكومة الألمانية، وهي ائتلاف يقوده الحزب الديمقراطي الاجتماعي، التحدي المتمثل في كبح هذا الاتجاه، وتعزيز الشمولية والقيم الديمقراطية في مواجهة التطرف المتزايد.
الدعم الألماني للسياسات اليمينية في إسرائيل
أما في السياسة الخارجية، فالأمر على العكس من ذلك تماماً، فنرى السياسة الخارجية الألمانية تتجه نحو أقصى اليمين، خاصة فيما يتعلق بإسرائيل؛ إذ تدفع عقدة الذنب ألمانيا التاريخية والأخلاقية تجاه اليهود لدعم الاحتلال الإسرائيلي، وحكومته المتطرفة التي تستمر غاية اليوم في ارتكاب مذابح بحق الفلسطينيين في غزة. إن هذه الفجاجة ازدواجية السياسة الألمانية خطيرة للغاية على ألمانيا نفسها داخلياً وخارجياً، فبينما تدعو ألمانيا إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان في الداخل، تؤيد بشكل علني سياسات تتعارض مع هذه القيم في الخارج، سياسات "نازية" تحاول ألمانيا أن تتناساه وتنسيها للعالم.
الاضطرابات العامة والاستياء السياسي
تشهد ألمانيا حالياً بعض مظاهر الاضطرابات العامة، الناجمة عن التحديات الاقتصادية نتيجة الحرب الأوكرانية وتداعيات جائحة فيروس كورونا؛ مما أدى لإحداث أزمات في الميزانية، والنزاعات الائتلافية؛ مما يضيف تعقيداً إلى المشهد السياسي. وتزايدت حدة الاحتجاجات ضد إجراءات التقشف وعدم فعالية الحكومة في معالجة بعض القضايا المحلية. هذه الاضطرابات، يمكن أن تفاقمها الازدواجية السياسية التي نتحدث عنها، فبينما تصدر الحكومة الحالية خطابات لحماية القيم الديمقراطية والليبرالية، تعكف على اتباع ممارسات ضدها تماماً، بملاحقة وقمع كل المتضامنين مع فلسطين، سواء كانوا مواطنين ألماناً أو مهاجرين؛ مما قد يؤدي إلى توسيع الإضطراب المجتمعي داخل ألمانيا ويعطي مساحات أوسع لليمين لنشر خطابات الكراهية ضد المهاجرين والمسلمين تحديداً، ويجب الذكر أن الاقتصاد الألماني بجميع قطاعاته في أشد الحاجة لهم. بالإضافة لذلك، سينعكس الانحياز التام لإسرائيل على صورة ألمانيا على المستويين القريب والبعيد؛ مما سيزيد من تآكل مكانتها في الساحة الدولية، خصوصاً إذا جاءت الانتخابات الأمريكية بعودة ترامب؛ مما سيزيد من جعل برلين مجرد تابع لواشنطن.
وهذه الازدواجية في السياسة الألمانية ليست مجرد مسألة سياسات متناقضة، بل إنها تعكس مشكلة حقيقية تمر بها ألمانيا في التعامل مع الإرث الاستعماري والنازي لها، فبينما تدعم إسرائيل في بطشها بحجة عقدة الذنب، تغض البصر عن تاريخها الأسود في ناميبيا؛ حيث كان لألمانيا السبق في ارتكاب أول إبادة جماعية في القرن العشرين هناك، بين عامي 1904 و1908، والتي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الناميبيين الأبرياء في ظروف لا إنسانية ووحشية، رغم ذلك لا ترى الحكومة الألمانية ضرورة مُلحة في تعويض ودعم تلك الدولة الأفريقية التي عانت من استعمارها، بل تصر على التكفير عن ذنبها بحق اليهود عن طريق دعم ارتكاب مأساة أخرى، لكن هذه المرة بحق الفلسطينيين.
هذه الازدواجية الألمانية تكشف مدى حقيقة بعض الدول في مواجهة تاريخها المظلم ومدى جديتها في توجيه سياستها بشكل أخلاقي حقيقي لا شعارات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.