أنا ابن جيلٍ ولد بعد إعلان الاحتلال الإسرائيلي عن قيام دولته، فقد جئت إلى هذا العالم في تسعينات القرن الماضي، أي بعد سنواتٍ من احتلال إسرائيل لسيناء وخروجها منها. لم يسبق لي أن التقيت بفلسطيني قبل مجيئي لأنقرة في عام 2016، على الرغم من ذلك، ظلت القضية الفلسطينية، بكل تفاصيلها السياسية والاجتماعية والثقافية، جزءاً لا يتجزأ من وعيي، قضية أحملها في قلبي وأتبناها بإخلاص.
لكن في السنوات الأخيرة، بدأت أعيد ترتيب صورتي عن القضية، مدفوعاً بتطور علاقاتي مع فلسطينيين من مدن وقرى مختلفة في الضفة الغربية، غزة، وأراضي 48. أدركت حينها الفجوة بين الصورة التي رسمتها في ذهني عن فلسطين وشعبها والواقع الذي كشف لي خلال لقاءاتي المطولة مع أصدقائي الفلسطينيين من جيلي، القادمين من غزة ورام الله والقدس وبيت لحم وحيفا ونابلس، تكشفت لي الفجوة الشاسعة بين الصورة التي رسمتها في مخيلتي عن فلسطين وشعبها، والواقع المعيش الذي شرحوه لي بتفاصيله.
مع أصدقائي في دفء مقاهي أنقرة، أدركت خلال أحاديثنا أن موقعي من القضية الفلسطينية لم يكن سوى مجرد دور المستمع والمتفرج، وغالباً بطريقة سطحية، فرغم قرب الحدود بين بلدي مصر وفلسطين لم يسمح لي يوماً بزيارتها؛ فعشت طفولتي ومراهقتي أجمع صورة عن فلسطين أعلم مسبقاً أنها لن تكتمل بسبب الحدود والاحتلال، فداومت على خلق صورة في خيالي عنها، أجمع ألوانها من نشرات الأخبار التي تمتلئ بدماء الفلسطينيين وأسلحة الاحتلال، ومن أشعار محمود درويش التي كانت تسمعها جدتي على شرائط الكاسيت القديم لها، ومن قصص سمعتها من أمي وقرأت بعضها في مجلات الأطفال، ومن أغاني فيروز ومارسيل خليفة التي كانت تستمع لها خالتي في الصباح، من مظاهرات الشباب التي كنت أراها في الشارع عند عودتي من المدرسة، وعندما كبرت قليلاً أصبحت أكملها من المناقشات المتواصلة مع أنصار القضية ومن لا يهتمون بها، من روايات غسان كنفاني ورضوى عاشور، ومن أوبريت الحلم العربي المليئة بصور القتل والتعذيب والإهانة وعديد من العناصر الأخرى التي ساهمت في تشكيل صورة عن أرض لا يفصلني عنها الكثير، تراكمت وتفاقمت لتجسد القضية الفلسطينية بالنسبة لي ولكثيرين من أبناء جيلي، كل بطريقته الخاصة.
وعلى الرغم من اندفاعي وحماسي المستمر عن أحقية القضية الفلسطينية، كنت أقبل دائماً بتلك الصورة غير المكتملة في مخيلتي، فشعرت أن القضية الفلسطينية بأكملها اختزلت كجدل أزلي أنا فيه على الهامش لا أتضرر منه بل أزداد فقط شرفاً بتبني طرف الخير فيه، إلا أن جاء طوفان الأقصى ليكمل صورة فلسطين، والفلسطينيون لا في عقلي فقط بل في روح وعي جيلي بأكمله.
جاء طوفان الأقصى، ليعيد تشكيل صورة كاملة عن فلسطين، يضعنا في قلب فلسطين، لا صورة فلكلور شعبي أو قصص مأساة منسية عن سكان الأرض الأصليين، كصورة تنقل فقط حقيقة المحتلين كقتلى ومجرمين، صورة داومنا فيها على نقل مأساة الفلسطينيين للعالم توهماً منا بأننا يمكن أن نستجدي العالم لأن ينحاز للفلسطينيين وينقذهم.
جاءت غزة اليوم وأنتجت صورة مركزها فلسطين بشكل واقعي، لا صورة يحتلها الاحتلال بأساطيره عن القوة والهيمنة والأمر الواقع وانعدام أي فرصة لتحرير، صورة عن فلسطين الحقيقة والممكنة، صورة لا يحتاج الإمعان فيها لمعرفة من يقف أمام تحرير فلسطين بحق، فليست قوة إسرائيل ولا الهيمنة الأمريكية على العالم بل خضوعنا نحن، لتفضيلنا الشديد للامبالاة والإيمان بالواقع على أي شيء آخر، لاختزالنا صورة القضية الفلسطينية كفلكلور شعبي، لا يتطلب منا سوى التعاطف.
إن الفلسطينيين في غزة يعيدو تشكيل موقعنا من فلسطين والحياة، فإذا ما أردنا أن نرى فلسطين وعالمنا أن ينحاز لآمالنا يجب أن تكون المقاومة في جوهر فكرنا، لا كفعل عسكري فقط بل كمحرك لأفعالنا ورؤيتنا وعملنا اليومي، إذ لا تقوم فكرة المقاومة بالضرورة على هزيمة العدو فوراً، وإنما تهدف إلى إجباره على دفع الثمن بشتى الطرق العسكرية وغيرها كالتي يستصغر تأثيرها بعض الناس كالمقاطعة.
إن الطبيعة البشرية والحضارة الإنسانية بكامل إنتاجاتها المادية والفكرية تسعى إلى الحرية، إذ ترفض الخضوع للواقع، للطبيعة، لقوانين الغاب، لذلك علينا التمسك بالصورة التي أنتجها طوفان الأقصى عن فلسطين، وننتج صورة جديدة عن فلسطين وعنا، لعلنا يوماً نفرض واقعنا، لنصنع عالماً ينصاع فيه العقل لأحلامنا بأوطان لا حدود لها مع فلسطين، ترضخ القوة لمقاومتنا الدائمة، فنطوع القوة للحق.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.