لن أتحدث في السياسة ولكني سأحدثكم عنا، عن حياتنا التي نعيش تفاصيلها كجزء منا. الوضع في الضفة المحتلة متوتر جداً، حتى قبل بدء معركة طوفان الأقصى وهجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
اعتداءات المستوطنين علينا (الفلسطينيين) لم تتوقف، يهاجمون قرانا، وسياراتنا المارة، ويدمرون حقولنا ويحرقون أشجارنا، ويسيطرون على أراضينا ويمنعوننا من دخولها، ويهجروننا من منازلنا. ودائماً ما تكون قطعان المستوطنين محمية بجيش الاحتلال، فضلاً عن امتلاك المستوطنين أنفسهم أحدث الأسلحة والرشاشات الأوتوماتيكية (أمريكية الصنع غالباً).
وأما الاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى، واعتداءات المستوطنين المقتحمين وجيش الاحتلال الذي يرافقهم، على من يوجد منا من المصلين والمرابطين في المسجد الأقصى، ومهاجمتهم من يسكن منا في القدس وقراها ومحاولاتهم الدؤوبة لتهجيرنا منها.. فحدِّث ولا حرج. والحال لم يقتصر على سلوان والشيخ جراح والعيسوية، بل كل شبر بالقدس في مرمى نيران التهويد.
هذا في ما يخص المستوطنين، أما انتهاكات جيش الاحتلال فهي بلاء بذاته.
يقتحمون تجمعاتنا السكنية، قرى كانت أو بلدات أو مدن أو تجمعات بدوية.. لا يضير، ما دام التجمع في الضفة المحتلة أو القدس، ينتهكون حرمات بيوتنا ويسطون على الورش والمؤسسات وأماكن العمل، يفتشون بعنف ويحطمون، ويسرقون كل ما تقع أيديهم عليه من مال ومصوغات وما يغلو ثمنه ويخف وزنه. ثم يعمدون إلى شبابنا وأطفالنا، بل ونسائنا أيضاً، ويعتقلونهم وينكلون بهم أمام ذويهم. عدة عشرات من المعتقلين يومياً، وفي أحيان كثيرة يتجاوزون المئة، دون أن يكون هناك في الغالب تهمة محددة يوجهونها للشخص سوى أن وجوده خارج السجن غير مرغوب فيه!
فيحولون المعتقل إلى الاعتقال الإداري الذي يتراوح بين 4 و6 أشهر، تجددها المحكمة العسكرية مرة تلو أخرى دون أن يعرف المعتقل أو أهله متى ستنتهي فترته الاعتقالية.
هذا فضلاً عن الحواجز العسكرية التي تنتشر في الضفة بين المدن والقرى والبلدات، وما يرافق وجودها من تفتيش مهين لنا، واحتجاز لساعات طويلة، واعتقال أيضاً، وإطلاق النار العشوائي علينا وقتلنا عند وجود مجرد شبهة أو شك في اعتزام أي منا القيام بعمل مقاوم على أحد تلك الحواجز.. وحتى عند انتفاء وجود شبهة، لا أحد يحاسب الجندي عند قتله فلسطينياً! بل يهب وزراء الاحتلال وحاخاماتهم وجمعياتهم المتطرفة لمباركته والإطراء على بطولته وتقليده أرفع أوسمة البطولة والفداء.
لن أُطيل عليكم أكثر من ذلك.. فاسمحوا لي أن أقص عليكم حكايتي:
زوجي أسير محرر، قضى في سجون الاحتلال 3 سنوات سابقاً وخرج لينغمس في حياته الأسرية، ورعاية طفليه المريضين بأمراض الكلى المزمنة، يعمل طوال النهار ويعود في الليل منهكاً، بالكاد يستطيع تلبية احتياجات الأسرة والاهتمام بالأطفال.
بصعوبة استطاع زوجي بناء وتجهيز بيت صغير المساحة على قطعة أرض ورثها من والده، سرعان ما انتقلنا للسكن فيه.
كنا نسمع ونشاهد عبر وسائل الإعلام الهجمة الشرسة على الضفة المحتلة، ثم العدوان الدموي على قطاع غزة الذي أشغلنا تماماً وجعلنا نعيش في همٍّ وغمٍّ وتوتر مستمر، خاصة مع شعورنا بالعجز عن رفع البلاء عن أهلنا في غزة، ونشعر بأننا في منأى عما يحدث بغزة، خاصةً أننا نعيش في منطقة هادئة إلى حد كبير لا مقاومة فيها!
في تلك الليلة، استيقظت على ضجيج مرتفع، وارتجاج السرير أسفل مني.. ذُهلت.. هل هناك زلزال؟ ماذا يجري بحق الإله؟!
جلست في سريري مذعورة أحاول فهم ما يجري!
نهض زوجي أيضاً مستطلعاً..
ثوانٍ قليلة كانت كافية لأن تنقلب الدنيا ونجد أنفسنا بلا مأوى.
أصوات مرتفعة من الخارج تنادي بلكنة عوجاء "إلى ساكن البيت.. (ونادى باسم زوجي الثلاثي).. قررت دولة إسرائيل هدم منزلك.. عليكم مغادرة البيت الآن.. بعد 10 دقائق فقط من الآن سيبدأ الهدم".
فركت عيني وقفزت أمام النافذة لأتأكد من صحة ما طرق أذنيَّ.. فلعلي أحلم ولعل هذا مجرد كابوس مقيت راود ذهني.
بحذر ألصقت أذني بزجاج النافذة البارد.. كرر الصوت ذاته الرسالة باللكنة المعوجة ذاتها.
قال زوجي: حسبنا الله ونعم الوكيل.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. هيا.. بسرعة ارتدي حجابك و سأوقظ الأولاد.
صرخت بتوتر: وهل سنخرج فعلاً؟
فقال بهدوء: وهل نبقى ليهدموا البيت فوق رؤوسنا؟ هل تظنين أنهم يتورعون عن ذلك؟ هيا لا تضيعي الوقت.
تجمدت في مكاني مرتبكة بشدة، لا أدري ماذا أفعل.. أطلت نظري في المكان.. هل أُحضر المعاطف لعلها تقينا برد منتصف الليل في الخارج؟ هل أُنقذ نقودنا؟ أم مصوغاتي؟ أم أدوية عبيدة وأحمد؟ أم الأوراق المهمة من بطاقات الهوية وأوراق ملكية الأرض وغيرها؟ أم أحمل بعض الملابس للأطفال؟ أم أركض نحو المطبخ لأحضر بعض الطعام؟ أم أُنقذ ذكرياتنا الجميلة وصورنا؟ أم… أم…؟
بقيت متجمدة غير قادرة على فعل شيء.. ركض زوجي ناحيتي.. قذف لي ملابس الصلاة، ووضع وشاحي الصوفي على كتفي وهزني بقوة: هيا.. لنخرج.. الجرافة بدأت بهدم السور.
سحبني من يدي وهو يقبض بحزم على أيدي أطفالنا الثلاثة وخرج بنا إلى الخارج. كانت أنياب الجرافة المرعبة تنغرس في الجدار الخارجي لبيتنا الحبيب.. تنتزع جزءاً منه وتلفظه جانباً، وتعود لتعيد الكرة مرة ومرة ومرة.
دقائق لم أحسبها من عمري، مرت أمام ناظريَّ بصعوبة شديدة.. كان البيت كومة من الركام المحطم.
كنت أتسمَّر على الرصيف المقابل لا أُصدق ما تراه عيناي.. يمتلئ الشارع بالجيبات العسكرية والجنود المدججين بالسلاح؛ على أهبة الاستعداد لإطلاق النار.
سقط آخر عمود في البيت، وشعرت بقلبي يسقط معه..
قفز مجموعة من الجنود فوق الركام يرقصون ويغنون بعبريتهم المقيتة ويتصورون، ويبدو أنهم قد فتحوا بثاً على تيك توك.. ظنوا أنفسهم قد انتصروا بعد أن أعماهم الحقد والكراهية والرغبة في الانتقام.
نظرت في وجوه أطفالي بعيون دامعة، قال قسام (أصغرهم): ماما، أنا أكره هؤلاء.. عندما أكبر سأثأر لك، لا أحب أن أراك حزينة، كم أتمنى لو أني أخذت دراجتي قبل أن يهدموا فوقها البيت، أكيد تحطمت الآن!
سمعت زوجي يحتسب ويحوقل قائلاً: فدا غزة.. فدا المقاومة.. لن يهزمونا.. سننتصر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.