للشهر الرابع توالياً منذ عملية "طوفان الأقصى"، ضد استبداد وطغيان الاحتلال الإسرائيلي، في غلاف قطاع غزة والمستوطنات المحيطة بالمدينة المحاصرة منذ سنوات طويلة، ودخول غزة في حرب طاحنة ارتقى فيها آلاف الشهداء، وأُبيدت فيها عائلات وأنساب، واغتيل فيها الأطفال الرضّع والنساء والشيوخ، وأُعدم فيها شعب أعزل، وتواصل العدوان الغاشم والهمجي، وعملية الإبادة الجماعية التي يقوم بها جيش الاحتلال مدعوماً بسند أمريكي غربي، وصمت دولي مخزٍ، في وجه آلة القتل والجرائم ضد الإنسانية والعمليات الوحشية التي ستبقى راسخةً في التاريخ البشري، وستظل تداعياتها وصداها وأثرها محفوراً في ذاكرة الأجيال.
غزة أزاحت الستار وأسقطت الأقنعة، لتكشف لنا عن ازدواجية المعايير وسقوط الشعارات والتمثيليات التي حملتها اللوائح والقوانين الدولية، ليظهر الوجه الآخر من العالم المظلم والمجحف، المنسلخ من أخلاقه وقيمه الإنسانية، فتاريخ السابع من أكتوبر والأيام والأسابيع والأشهر التي تبعته قلبت كل الموازين، ورسمت معها معادلة جديدة.
المقاومة والشعب الفلسطيني.. عنوان للتحدي والصمود
أبانت فصائل المقاومة الفلسطينية عن جاهزية وندية كبيرة في تعاملها مع المحتل، ترجمتها عمليات نوعية وغير مسبوقة، أربكت جيش الاحتلال وكبدته خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، لم يذقها منذ عقود، وكعادته سارع هذا الأخير إلى استهداف المدنيين العزّل والأبرياء من النساء والأطفال، في قصف دموي ووحشي على الأحياء السكنية والمناطق المأهولة بالسكان، وهجمات مباشرة على البنى التحتية والمراكز الحيوية، والمستشفيات والأطقم الطبية والصحفية، فالجميع هدفٌ لجرائم الاحتلال الإسرائيلي الذي تمادى في قتل الأبرياء وإقامة حصار كامل على قطاع غزة، وسط صمت غربي رهيب ومتعمّد وفق مبدأ الكيل بمكيالين، ليسقط قناع الشعارات الإنسانية والشرعية الدولية عن هؤلاء الذين لطالما تغنّوا بها في مواضع ومناطق عديدة من بؤر الصراع في العالم، شعارات ومبادئ تندثر وتتلاشى عندما يتعلق الأمر بآلة القتل والدمار الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل.
وتسارعت الأحداث على الأراضي الفلسطينية المحتلة، واشتدت الاشتباكات بين فصائل المقاومة وجيش الاحتلال بعد عملية الاجتياح البري التي قام بها هذا الأخير، عقب عملية "طوفان الأقصى" التي لا تزال تصنع الحدث وتحرك المياه الراكدة، لتصبح سيولاً وطوفاناً في كبريات المنابر الإعلامية العالمية، لتتحرك معها المواقف السياسية والتكتلات الدبلوماسية وتسقط الأقنعة تباعاً عن الموالين للاحتلال الاسرائيلي والداعمين لجرائمه والمحرّضين على تواصله، وفي المقابل تتعالى أصوات المتضامنين والداعمين للقضية الفلسطينية العادلة، وحق الشعب الفلسطيني في العيش بحرية وكرامة، ووقف حرب الإبادة والتنكيل والمجازر المرتكبة ضده، وسلب أراضيه والاعتداء على مقدساته، ولعمليات الاعتقال التعسفي والتعذيب، ومنع العلاج والمساعدة الطبية، وحرمانه الممنهج من أبسط حقوقه، التي وصلت إلى حد سلبه حق الحياة، لتزهق الأرواح بكل برودة على مرأى العالم أجمع، في سابقة تاريخية، دون أن يحرّك المجتمع الدولي ساكناً تجاه ذلك، حيث لا حساب ولا عقاب للمحتل الإسرائيلي على أفعاله وتعدياته، مهما بلغت شناعة جرائمه وتنكيله بالشعب الفلسطيني والاستيلاء على مقدراته، ضاربين حقوق الإنسان والشرعية الدولية عرض الحائط.
المقاومة الفلسطينية لم تجد سبيلاً للحد من جرائم الاحتلال الإسرائيلي المغتصب، سوى اتباع طريق من سبقها في نيل الحرية والتخلص من الاستبداد والعيش تحت كنف العزة والكرامة، بسلك نهج الكفاح والنضال والوقوف في وجه الاحتلال بكل الوسائل المتاحة، بعزيمة تامة تغذيها روح الوطنية والإيمان بالقضية العادلة، وبانتصار الحق على الباطل في آخر المطاف، رغم اليقين التام بأن فاتورة التحرير والخروج من مظلة الاستبداد والتسلّط ستكون تكلفتها باهظة، من دماء الشهداء ومن صبر على الحصار والتضييق الجائر، ومن الخذلان المتنامي رغم اعتياد الفلسطينيين عليه منذ بداية انتفاضتهم ضد الكيان المحتل، خذلان تزيد شدّته مع كل حدث واعتداء على الشعب الفلسطيني وأرضه.
وبينما يواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي المحتل جرائمه ضد الإنسانية في غزة، تواصل فصائل المقاومة الفلسطينية دكّ حصون العدو، وإسقاط عشرات القتلى في صفوفه يومياً، وتدمير آلياته المتوغلة في القطاع، وتوثيق ذلك بالصوت والصورة، حتى إنها دفعته للجنون لحد قتل أسرى من أبناء شعبة بنيرانه وبدم بارد، وبالرصاص نفسه الذي لطالما قتل الأطفال والأبرياء، حيث أدت هذه السقطة في صفوف الجيش الإسرائيلي إلى ردة فعل صاخبة في الداخل، الذي نادى بمحاسبة المتورطين والفاشلين، مطالبين بمحاسبة هؤلاء على كل الأحداث التي مضت، وعلى رأسها الفشل الذريع في إدارة الحرب على غزة، وسلسلة الإخفاقات المتواصلة، خاصةً في الميدان، الذي يتكبد الخسائر تلو الأخرى نتيجة ضربات المقاومة، التي تسير بخطى ثابتة لتحقيق نصر تاريخي على جيش لطالما وصف نسفه بأنه لا يُقهر أمام العالم أجمع.
المقاومة الفلسطينية "الحصان الأسود" الذي يلاحق الاحتلال ويسلب النوم من جفونه
بإقرار الاحتلال الإسرائيلي بحد ذاته، فتداعيات العملية النوعية والهجمات التي قامت بها فصائل المقاومة الفلسطينية، مازالت تلقي بظلالها على الداخل الإسرائيلي، سواء على المستوى السياسي وتصاعد الأصوات المنددة بالوهن الأمني والعسكري لحكومة نتنياهو، وفشلها الذريع في إدارة الأحداث، ومواجهة ضربات المقاومة، ومن جهة أخرى بالنظر للأضرار والخسائر الفادحة التي يتكبدها جيش الاحتلال الصهيوني في الأرواح والعتاد يومياً، وإقراره بأنه تلقى ضربات قوية ومؤلمة على مستوى عالٍ من الدقة والتنظيم وبأنه يعيش أسوأ أيامه، على خلاف أي وقت مضى، بالمقابل أبانت المقاومة الفلسطينية عن جاهزية كبيرة وندية غير مسبوقة في مواجهة الآلة الإسرائيلية الفتاكة المدججة بالأسلحة، وآخر ما توصلت إليه التكنولوجيا الحربية، فلم يعد يخفى أن العالم كله اندهش من عملية "طوفان الأقصى" التي رافقتها شكوك كبيرة في معايير ومقاييس تصنيف الجيوش ووضعها في مراتب متقدمة في خانة الأقوى والأشد فتكاً، على حال جيش الاحتلال، الذي طالما وصفته كبريات المواقع ومراكز البحث بأنه الجيش الذي لا يقهر، وأن باستطاعته خوض حروب إقليمية على مستوى عالٍ، وأن إمكانياته تجعله يتصدر قائمة أعتى جيوش المنطقة وأكثرها تطوراً.
لكن عملية "طوفان الأقصى" قلبت الموازين تماماً، ليتفاجأ العالم بقوة ضربات المقاومة الفلسطينية وقوة تأثيرها، رغم قلة الإمكانيات والحصار المفروض عليها منذ عقود، لكنها استطاعت أن تفرض منطقها وتوجه صفعةً قويةً للمحتلين، جعلتهم يستفيقون من حلم تمددهم ومواصلة سياستهم الاستعمارية. وبعد عملية "طوفان الأقصى" يظهر إجماع على أن المقاومة الفلسطينية أصبحت ناضجةً بما فيه الكفاية لتكون وصيةً على عملية تحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي، وأنها تتطور بشكل أكبر لتحدث ائتلافاً شاملاً يضم كل الفصائل المعنية بالقضية الفلسطينية، وتوحيد الصف لفرض كلمتها عسكرياً وسياسياً بشكل أكبر في المستقبل القريب.
أبشع قوة استعمارية في التاريخ الحديث!
لا يخفى على الجميع أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يمارس التقتيل والإجرام على الأراضي الفلسطينية منذ بدايات القرن الماضي، منذ أن وطأ الصاهينة المستوطنون أرض فلسطين من مختلف بقاع الأرض، فجيش الاحتلال الإجرامي يمارس جرائم ضد الإنسانية، ويتفنن في قتل الفلسطينيين والتنكيل بهم في أبشع صور الظلم والاستبداد في العصر الحديث، ولم نرَ أي توافق لدول عظمى يستنكر ويدين الجرائم ويتدخل بشكل مباشر لإنهاء الاحتلال، أو على الأقل لحل الدولتين وترسيم الحدود وفق اتفاق 1967، وتطبيق مبادرة السلام العربية تحت وصاية الأمم المتحدة، وهو ما لم يتجسد، بل حدث العكس تماماً، فالاحتلال يتمدد، ومضى في سياسة استيطانية غير محدودة بمباركة الغرب، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، وحين انتفض الشعب الفلسطيني الأعزل تمت مواجهته بالرصاص الحي، وقوبلت احتجاجاته السلمية بالاعتقالات والضرب والاعتداء والقتل، على مرأى من العالم العربي والإسلامي، دون أن يحرّك هؤلاء ساكناً، أو يقدموا خططاً ملموسة تطبَّق على أرض الواقع، تحد من وحشية الاحتلال وتقوّض من مشاريعه الاستيطانية، ليواصل هذا الأخير سياسته الإجرامية وحرب الإبادة ضد الفلسطينيين العزّل، حيث يسجل التاريخ قصفه الهمجي للأحياء السكنية والمستشفيات والمساجد والكنائس والمدارس ومخيمات النازحين، وقتله الأطفال والنساء وأعضاء من منظمات الإغاثة الإنسانية وصحفيين وناشطين حقوقيين، بالإضافة إلى مئات المذابح والمداهمات على الأقصى ومخيمات اللاجئين، حيث وقع الآلاف من هؤلاء بين شهداء وجرحى، فالاحتلال الإسرائيلي أصبح معروفاً بالجرائم وإراقة دماء الأبرياء، ومجازره الحالية لن تكون الأخيرة، وسمة الإجرام الملتصقة بالاحتلال ليست وليدة اليوم، ولن تكون جديدة في المستقبل.
أمريكا والغرب شركاء الاحتلال الإسرائيلي في إراقة الدماء وحرب الإبادة والقتل الممنهج
أمريكا منذ بداية عملية "طوفان الأقصى" لفصائل المقاومة الفلسطينية في حراك دبلوماسي متسارع، مقدمةً الغطاء السياسي والعسكري، ومانحة الضوء الأخضر لجيش الاحتلال الإسرائيلي لسفك دماء الفلسطينيين، فموقف الولايات المتحدة تجلَّى بوضوح في زيارة "جو باين" للأراضي المحتلة، ووزير خارجيته، ولقائهم برئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي والرئيس الفلسطيني محمود عباس، والجميع شاهد وسمع خطاباتهم المنحازة بشكل كامل للاحتلال، مبرّرين لهم عمليات القتل وقصف المدنيين، بحجة الدفاع عن النفس، مؤكدين الدعم الكامل لحكومة الاحتلال، ورافق ذلك استمرار وصول الدعم العسكري، ورصد أغلفة مالية ضخمة لدعم الاحتلال في حربه على غزة والشعب الفلسطيني الأعزل، مانحين الضوء الأخضر للاجتياح البري للقطاع تحت مظلة تحرير الرهائن والقضاء على القوة العسكرية للمقاومة الفلسطينية هناك، بينما في الجهة المقابلة نجد العالم الإسلامي والدول العربية تندد كالعادة وتستنكر قتل المحتل الإسرائيلي للمدنيين والأطفال والنساء، دون أي تدخّل مباشر في حل الأزمة وإيقاف إراقة دماء الفلسطينيين، أو حتى بإدخال المساعدات الكافية لأهل غزة المحاطين بالموت، خاصةً بعض الدول المجاورة، حيث تبقى خطابات الإدانة غير كافية، ولا تسمن ولا تغني من جوع، وتعطّش جيش الاحتلال للدماء والقتل، للأسف وجد الفلسطينيون ككل مرة أنفسهم وحدَهم في مجابهة الاحتلال المدعوم من دول عظمى، تسانده وتبرر جرائمه.
وبالرجوع لعملية "طوفان الأقصى"، فقد جاءت بعد يقين تام للمقاومة بأن القضية الفلسطينية بدأ صيتها يضعف، والإيمان بها قد نقص عند بعض الدول العربية، التي راحت تبرم اتفاقيات تطبيع مباشرة مع الكيان المحتل، في انتظار الدور على دول أخرى أصابها وباء التطبيع مع الاحتلال، وبالتالي فعملية "طوفان الأقصى" أعادت إبراز معالم الكفاح والنضال، ورفعت راية القضية الفلسطينية عالياً، رغم التكلفة الباهظة التي تُدفع من دماء الشهداء الأبرار.
"الحرية لفلسطين".. فكرة تترسخ وتتوسع في العالم يوماً بعد يوم
المظاهرات في مختلف الدول العربية والإسلامية، وفي أمريكا وعواصم الدول الأوروبية والآسيوية تتوسع، ولم يقتصر التنديد من المتظاهرين فحسب، بل شمل بعض السياسيين ورؤساء الدول، الذين ضاقوا ذرعاً من عنجهية وإجرام الاحتلال، فإسرائيل اليوم وقادتها مدعوّون للمساءلة والمحاكمة لارتكابهم جرائم حرب، فعديد من الدول ساندت الدعوى المرفوعة ضد هؤلاء في محكمة العدل الدولية، وكلها دعت إلى الوقف الفوري لقصف المدنيين ومحاسبة المتورطين في المجازر وأكبر عملية للتقتيل والتنكيل يشهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، مؤكدين على أن الوقت حان من أجل إقامة دولة فلسطين، وتنفيذ مبادرة السلام ولوائح الأمم المتحدة، وأن التطبيق أصبح ضرورياً أكثر من أي وقت مضى، بالإضافة إلى تنديد المنظمات الإنسانية وجمعيات حقوق الانسان ومجلس الأمن الدولي، وتزايد الأصوات المنددة بجرائم ومجازر جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي ككل مرة يعتمد على "الفيتو" الأمريكي لإبطال القرارات والإدانات الدولية، لمواصلة عملياته العسكرية في غزة، وقتله للمدنيين والأطفال بكل وحشية، وليست المرة الأولى التي تقوم فيها إسرائيل بمثل تلك الجرائم.
لكن الاختلاف هذه المرة هو إصرار الفلسطينيين ووقوفهم في وجه الاحتلال دفاعاً عن أرضهم وعن محاولة تهجيرهم من بيوتهم، على مرأى العالم الذي يشاهد أكثر من أي وقت مضى بشاعة جرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، وسيسجل التاريخ وقوف الغرب وأمريكا مع الاحتلال ضد الأطفال والنساء والإنسانية، بينما سيتضح للجميع أيضاً أن كفاح الشعب الفلسطيني سيستمر وسيبقى حياً في قلوبهم، فمن لم يسجل شهيداً سيكون شاهداً على الانتصار.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.