كعادة إسرائيل، دولة الكيان المحتل، منذ أن تأسست وهي ترتكب جرائم حرب، من دير ياسين إلى الطنطورة، وإلى تدمير ما يقارب 500 قرية فلسطينية عام 1948، وطرد الشعب الفلسطيني وتهجيره من أرضه إلى الشتات، أكثر من 75 عاماً والجريمة مستمرة وواضحة للعيان، أمام مرأى العالم ومسمعه، وبدعم القوى الغربية، صاحبة القيم، والمتغنّية دائماً بالحرية والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان.
لم تكن حرب غزة الأولى ولا الثانية ولا الخامسة بعيدة عن هذه الجرائم، ولا الحصار المستمر ضد قطاع غزة لأكثر من سبعة عشر عاماً.
ولا حرب عام 1967 واحتلال الضفة الغربية والقدس واضطهاد الشعب الفلسطيني وبناء المستوطنات والأسوار وعزل المدن والقرى، في انتهاك صارخ لأبسط حقوق البشر في الحياة وحرية الحركة، وفي ظل الاعتقالات لآلاف من الفلسطينيين دون سبب أو محاكمة.
ما زالت دولة الاحتلال رغم ذلك تلعب دور الضحية، وأنها صاحبة الحق في الأرض، وفي قتل الإنسان وتشريده، تحت مسمى حق الدفاع عن النفس.
جاءت جنوب أفريقيا، الدولة الأفريقية التي عانت من الاضطهاد والفصل العنصري، والداعمة للقضية الفلسطينية منذ فترة طويلة، لترفع الدعوى ضد إسرائيل بانتهاك اتفاقية الإبادة الجماعية، في القضية المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية، حيث وَقَّعت كل من جنوب أفريقيا وإسرائيل على اتفاقية الإبادة الجماعية، ما يسمح للمحكمة بالمضي قدماً في القضية.
وقد اكتسبت الاتفاقية، التي تم تفعيلها أيضاً بعد الحرب العالمية الثانية، زخماً في أعقاب الهولوكوست، وهو الحدث الذي ساعد في تشكيل مفهوم الإبادة الجماعية ذاته.
إن جنوب أفريقيا كطرف محايد في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي هي من تواصلت مع الأطراف المعنية قبل تقديم الطلب، وانتهت إلى أداء هذا الدور، لأنه لو كانت فلسطين صاحبة الطلب لكانت القضية أكثر تعقيداً بسبب طبيعة تسييسها.
علاوةً على ذلك، هناك بعض الدول التي أبدت تحفظاتها على المادة 9 من الاتفاقية على وجه الخصوص، والتي تسمح لأي طرف ببدء نزاعات قضائية حول مسؤولية دولة عن الإبادة الجماعية، هذه الدول أصرت على ضرورة طلب موافقة الدولة المُتهمة أولاً قبل عرض القضية على محكمة العدل الدولية، استند محامو إسرائيل إلى هذه النقطة بالفعل خلال جلسة استماعهم.
لكن جنوب أفريقيا ليست واحدة من هذه الدول التي تتحفظ على المادة، كما أن تاريخها من الفصل العنصري والنضال ضده يجعلها في وضع أفضل لتقديم الطلب ضد إسرائيل، لقد تم تطوير خطط جنوب أفريقيا بحرص لتجنب أي احتمال لإفشالها.
يتمحور طلب جنوب أفريقيا حول إثبات انتهاك إسرائيل لاتفاقية الإبادة الجماعية، ورغم عدم اختصاص محكمة العدل الدولية بمحاكمة الأفراد المُتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لأنها ليست محكمة جنائية، فإن الخطوة التي خَطَتْها جنوب أفريقيا وحلفاؤها لإدانة إسرائيل، بسبب هجومها على غزة، تعتبر أعلى، لأنها تتكون من إثبات طبيعة الإبادة الجماعية لممارسات إسرائيل.
وتُعرّف اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948 الإبادة الجماعية بأنها "جريمة تُرتكب بقصد تدمير جماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، كلياً أو جزئياً"، كما تُلزم الدول الأطراف في الاتفاقية بمنع ومعاقبة مرتكبي جريمة الإبادة الجماعية.
وفي الطلب المُقدم إلى محكمة العدل الدولية، والمكون من 84 صفحة، تهدف جنوب أفريقيا إلى تقديم دليل على قصد إسرائيل ارتكاب جرائم إبادة جماعية، مع توضيح كيف شهدت الأشهر الثلاثة الماضية قيام الاحتلال الإسرائيلي بارتكاب أعمال تعتبر ذات طابع إبادة جماعية، لأنها تهدف إلى إحداث تدمير جزء كبير من المجموعة الوطنية والعنصرية والإثنية الفلسطينية، وهي جزء من المجموعة الفلسطينية في قطاع غزة.
ترتكز استراتيجية جنوب أفريقيا على تقديم قائمة الأدلة على حجم الاعتداء الإسرائيلي وطبيعته، كممارسات يمكن اعتبارها من قبيل الإبادة الجماعية، ومحاولة إثبات وجود ركن القصد أو النية لهذه الإبادة وراء هذه الممارسات، وتولى أعضاء الفريق القانوني لجنوب أفريقيا جوانب مختلفة من هذه الاستراتيجية، حسب خبراتهم.
تتضمن قائمة الأدلة في القضية التي لا تحتاج إلى أدلة، وهي واضحة أمام كل العالم، كجريمة إبادة ترتكب على البث المباشر، وقد تضمنت قتل الفلسطينيين في غزة. أكثر من 23 ألف فلسطيني قتلوا في غزة منذ أن بدأت إسرائيل هجومها العسكري. لقد قُتلوا في منازلهم، وفي الأماكن التي لجأوا إليها، في المستشفيات، وفي مدارس الأونروا، وفي الكنائس، وفي المساجد، وفي أثناء محاولتهم العثور على الطعام والماء لعائلاتهم. لقد قُتلوا عندما لم ينجحوا في الفرار، وفي الأماكن التي فروا إليها، وحتى في أثناء محاولتهم الفرار عبر الممرات الآمنة التي أعلنتها إسرائيل، عمليات قتل واسعة النطاق لدرجة أن "الجثث تُدفن في مقابر جماعية، وغالباً ما تكون مجهولة الهوية".
وتشير الدعوى أيضاً إلى أن "الجنود الإسرائيليين ينفذون عمليات إعدام تعسفي، من بينها إعدام عدة أفراد من العائلة نفسها، رجال ونساء وكبار السن. هناك أيضاً تقارير عن مقتل أشخاص عُزل- من بينهم رهائن إسرائيليون- بالرصاص فور رؤيتهم، رغم عدم تشكيلهم أي تهديد، بما في ذلك خلال التلويح بالأعلام البيضاء".
وبشأن استخدام الأسلحة، يقول طلب جنوب أفريقيا: "إن إسرائيل تسقط قنابل "غبية" على غزة، بالإضافة إلى قنابل ثقيلة يصل وزنها إلى 2000 رطل، والتي يتوقع أن يصل نصف قطرها المُميت إلى 260 متراً. ومن المتوقع كذلك أن تتسبب في إصابات وأضرار بالغة على مسافة تصل إلى 800 متر من نقطة الاصطدام. وتُستخدم هذه الأسلحة في واحدة من أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان في العالم، حيث قُتل إلى الآن ما يقرب من واحد من كل 100 شخص".
التسبب في أضرار جسدية وعقلية جسيمة للفلسطينيين في غزة
يشير طلب جنوب أفريقيا إلى إصابة أكثر من 55 ألف فلسطيني منذ الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة، في أكتوبر 2023، معظمهم من النساء والأطفال. "الحروق وبتر الأطراف هي إصابات مُتكررة، إذ فقد ما يُقدر بنحو 1000 طفل إحدى ساقيه أو كلتيهما". ويشير الطلب كذلك إلى عدم وجود مستشفيات عاملة في شمال غزة، "وبالتالي يصبح المصابون مُرشحين للموت، نتيجة العجز عن إجراء جراحة أو الحصول على علاج طبي يتجاوز الإسعافات الأولية، ويموتون ببطء، يموتون بشكل مؤلم بسبب إصاباتهم أو بسبب الالتهابات الناتجة عنها".
وكذلك تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم ومعاملتهم معاملة قاسية وغير إنسانية ومهينة في غزة، فقد تم اعتقال أعداد كبيرة من المدنيين الفلسطينيين، من بينهم أطفال، وتم عصب أعينهم، وإجبارهم على خلع ملابسهم والبقاء في العراء بالطقس البارد، قبل إجبارهم على ركوب الشاحنات ونقلهم إلى أماكن مجهولة.
الطرد الجماعي من المنازل وتهجير الفلسطينيين في غزة
تشير إلى "أوامر الإخلاء" التي أصدرتها إسرائيل منذ شن الهجوم على قطاع غزة، فإن التقديرات تشير إلى أن "أكثر من 1.9 مليون فلسطيني من بين سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة- أي نحو 85% من السكان- قد أُجبروا على ترك منازلهم. بالنسبة للعديد من الفلسطينيين فإن الإجلاء القسري من منازلهم هو بالضرورة أمر دائم. وقد دمرت إسرائيل إلى الآن ما يقدر بنحو أكثر من 355 ألف منزل فلسطيني، وهو ما يعادل 60% من إجمالي المساكن في غزة".
حرمان الفلسطينيين في غزة من الحصول على ما يكفي من الغذاء والماء
"في 9 أكتوبر 2023، أعلنت إسرائيل "حصاراً كاملاً" على غزة، ولم تسمح بدخول الكهرباء ولا الطعام ولا الماء ولا الوقود إلى القطاع". ويدفع الحصار الشعب الفلسطيني في غزة "إلى حافة المجاعة"، في ظل استمرار إسرائيل بقطع المياه المنقولة عبر الأنابيب إلى شمال غزة، وقصف البنية التحتية على نحو يجعل شبكة المياه غير صالحة للعمل والشرب.
حرمان الفلسطينيين في غزة من الحصول على المأوى الملائم والملابس والنظافة والصرف الصحي
تشير إلى نقص حاد في "ملابس التدفئة، والمفارش، والبطانيات، والمواد غير الغذائية الحيوية، ما دفع الناس إلى الاعتماد بشكل كبير على الأخشاب والنفايات التي تم إنقاذها لأغراض الطهي والتدفئة، ما يزيد من خطر الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي"، كما يؤدي نقص المياه النظيفة إلى زيادة خطر الإصابة بالأمراض المعدية.
حرمان الفلسطينيين في غزة من المساعدات الطبية الكافية
إنه وقبل كل شيء تقريباً، كان الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة بمثابة هجوم على نظام الرعاية الصحية الطبية في غزة، الذي لا غنى عنه لحياة الفلسطينيين وبقائهم على قيد الحياة، ومع تزايُد الهجمات على المستشفيات منذ ديسمبر، تعرضت المستشفيات للحصار، وحُرمت من الكهرباء والوقود، ومُنعت من تلقي الإمدادات، واستُهدفت مولدات الكهرباء ومعدات إنقاذ الحياة، مثل أنابيب الأوكسجين.
تدمير الحياة الفلسطينية في غزة
لم تدمر إسرائيل بيوتاً ومجمعات سكنية بأكملها في قطاع غزة فحسب، بل دمرت شوارع وأحياء بأكملها، ومتاجرها ومدارسها وأسواقها النابضة بالحياة، ومنازل العائلات، وعيادات الأطباء، والشوارع، والمساجد، والكنائس التاريخية، وكل شيء كانت تعتمد عليه حياة الفلسطينيين في السابق قد تضرر أو دُمر، إلى جانب تضرر الكثير من الناس. علاوة على ذلك، ألحقت إسرائيل الضرر أو دمرت عدداً لا يحصى من المكتبات، ودور النشر، والمكتبات العامة، ومئات المرافق التعليمية، إلى استهداف إسرائيل كل جامعة من جامعات غزة الأربع.
إلى جانب تدميرها للآثار المادية لتاريخ وتراث الفلسطينيين في غزة، سعت إسرائيل إلى تدمير الأشخاص الذين يشكلون ويخلقون هذا التراث من الصحفيين والمدرسين والمثقفين والشخصيات العامة الشهيرة في غزة، والأطباء والممرضين، وصناع السينما، والكُتاب، والمطربين، ومديري وعمداء جامعات غزة، ورؤساء مستشفياتها، والعلماء البارزين، واللغويين، والمسرحيين، والروائيين، والفنانين، والموسيقيين.
بعد كل هذا الإجرام والأعداد الكبيرة من الضحايا والدمار، يخرج مندوب وممثل إسرائيل في المحكمة، ومن ورائه المسؤولون الإسرائيليون، ليقولوا لم نرتكب إبادةً جماعية ضد الفلسطينيين، وكأن من فعلوا هذا جاؤوا من القمر، وليؤكدوا بكل وقاحة أن جيش الاحتلال، الذي يحتفل ويتفنن بالقتل والسادية التي يرتكبها، الأكثر أخلاقية في العالم.
فشكراً لجنوب أفريقيا التي أعادت للإنسانية وجهتها، وكشفت النفاق والكذب وازدواجية المعايير التي نراها حول العالم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.