"لا بدَّ من الاهتمامِ بالتَّعليمِ بعيداً عن الأهدافِ والمصالحِ السياسيَّةِ، وعلى الانتهازيينَ إعلانُ الهُدنةِ في هذا المجال الذي تُسطِّرُ مُخططاتُه مستقبلَ الأجيالِ وبالتالي مصير الأممِ. وللأسفِ سيظل هذا القطاع ضائعاً حتى تطاله تغييراتٌ وإصلاحاتٌ عميقةٌ وجذريَّةٌ تتمثل أولاها في التعامل الرزين، والأخذ بعين الاعتبار الرأي العام الحقيقي والشرعي وتمثيل الشَّعب بمصداقيَّةٍ وديمقراطيَّةٍ" زمن الذلقراطيَّة لعالمِ المستقبليات المهدي المنجرة.
تعدُّ قضيةُ إنتاجيَّةِ التَّعليمِ من عدمها من القضايا التي تُثارُ كثيراً في النقاشاتِ الاجتماعيَّةِ والسياسيَّةِ والثقافيَّةِ، وهي رغم ما تلقاه من نقاش وتداول في هذه الأوساط إلا أنها لم تُعطَ حقها من النَّظر القويمِ الذي ينظرُ إلى المسائل بتبصرٍ وعقلانيَّةٍ أكثر منه بجدلٍ وطيشٍ وتسييس. ذلكَ أنَّ أقواماً من أهل السياسةِ لطالما رددوا للعامة أنَّ قطاعَ التَّعليمِ قطاعٌ غير منتجٍ وغير مُدرٍ لأيِّ فاعليَّةٍ على مستوى المجتمع، وقد لاقى هذا القولُ قبولاً واسعاً عند الشرائحِ الاجتماعيَّة والسياسيَّةِ على الخصوص دون أي مراجعة أو تفكُّرٍ في المسألة، والأخطرُ من ذلك أنَّهُ تسرَّبَ إلى أهل المجال من الأساتذةِ حتى أضحى عندهم من المسلماتِ التي لا نقاشَ فيها.
وللكشفِ عن خطأِ هذا المذهب وبيان انحرافه لا بدَّ من تبيُّنِ سياقهِ الذي يتأطرُ ضمنه، وهو إطار سياسيٌّ محض، يسعى أربابُهُ إلى تبرير فشلِهِم السياسيِّ وتغطيتهِ بالافتراءِ على التكاليفِ التي تنفقُ في سبيلِ تعليمِ الأجيالِ وتوفير تعليمٍ يرقى بالأمةِ وأفرادها ويُحسِّنُ من نمط تفكيرها، ولهذا تجدُ هذه التوجهات السياسيَّة تبخلُ على قطاعِ التعليمِ بالعطاءِ الماديِّ، بل وتدافِعُ عن هذا البخلِ وتبحثُ له عن مسوغاتٍ تشرعنُ به عملها هذا، فتبخلُ في أجورِ الأساتذة وموظفي القطاع، وتبخلُ في ميزانياتِ إنشاءِ المدارسِ بالمواصفاتِ التربويَّةِ العالميَّةِ (قياساً على الملاعبِ الرياضيَّةِ العالميَّةِ)، وتبخلُ في إعدادِ البرامجِ التَّعليميَّةِ التي تُهيئُ تلميذَ اليومِ للإبداع والتميز والقيادةِ الرشيدةِ في المستقبل وهلمَّ جرّا.
ولكن هل التَّعليمُ حقاً قطاعٌ غير منتجٍ؟ وإذا كان كذلك فما هي القطاعاتُ المنتجة؟ وهل الإنتاجُ سندٌ معياريٌّ للأمدِ القريبِ أم البعيد حتى يُحكمَ عليهِ في ولايةٍ حكوميَّةٍ عمرها أربعُ أو خمسُ سنواتٍ؟ هي أسئلةٌ جوهريَّةٌ كان لزاماً علينا طرحها ها هنا على أهل هذا المذهب القائلينَ به، وأجوبتها كفيلةٌ لرد ادعاءاتهم المشبوهة؛ ذلك أنَّ التَّعليمَ قطاعٌ يُؤطرُ سنوياً ملايينَ المتعلمينَ في أسلاكٍ تعليميَّةٍ مختلفةٍ؛ منها الابتدائيُّ والإعداديُّ والتأهيليُّ، بالإضافةِ إلى التعليمِ الجامعيِّ الذي يمتدُ لسنواتٍ وسنوات. وعمليَّةُ التأطير هاته تشتملُ على مهام متعددةٍ؛ منها التعليم والتربيةُ والتكوينُ وجميعها تصبُّ في دائرةِ صناعةِ رجلِ الغد، فإن تحقق الشرطُ تم جوابه، وإن انعدم الشرطُ انعدم جوابُهُ، ومن ثمَّ ضاعَ رجلُ الغد، وضاعتْ معه آمال الوطنيَّةِ والإنتاجيَّةِ، وبهذا يكونُ السياسيُّ الحقودُ على التَّعليمِ أكبر مُساهمٍ في عدم الإنتاجيَّةِ الإيجابيَّةِ والفاعلةِ.
فأي غدٍ مفرحٍ يرجوهُ من بخِلَ على معقِلِ بناءِ الإنسانِ! بناء الإنسانِ الذي ينقلُهُ من ظلماتِ الجهلِ وطرقاتِه إلى أنوار العلمِ وبركاته، أليس التعليمُ أساسَ أي نهضةٍ يبحثُ عنها كل عاقلٍ؟ وإذا لم يكن هذا كلُّه إنتاجاً مقنعاً فأين المجالات المنتجة في عين هؤلاء؟ هل مجال الرياضةِ الذي تُنفَقُ فيه الملايين بلا عد ولا حد هو القطاعُ المنتج؟ وأين مظاهر هذا الإنتاج؟ وهل مجال الإعلامِ والقنوات التلفزيونيَّة والمهرجانات الموسيقيِّة التي تنظمُ بميزانياتٍ ضخمة هي المجالاتُ المنتجة؟ أكيد أنها مجالاتٌ منتجةٌ بلا شك، إلا أنَّها ليست منتجةً لإنسانٍ قد نفتخرُ به غداً.
إنَّ إنتاجيَّةَ التَّعليم ليست كغيرها من الإنتاجياتِ التجاريَّةِ أو الصناعيَّةِ أو الفلاحيَّةِ، فإذا كانت هذه المجالات تنتجُ المادة التي يحيا عليها الإنسانُ مُستهلكاً بالليل والنهارِ، فإنَّ إنتاجيَّةَ التَّعليمِ إنتاجيَّةٌ خاصةٌ، ذلك أنها تبني الإنسانَ الذي يصنع المجتمعَ، وترفع الإنسانَ من دركات الاستهلاكِ إلى درجات المعرفة، هذه المعرفة التي بها أمان المجتمعات وتقدمها، وازدهار الأمم ورفعتها، وإلا كيف يزدهرُ وطنٌ يسوده الجهل وينخره الفساد. فها هو التعليمُ يُنتِجُ الطبيبَ والممرض والمهندس والقاضي والمحامي والأستاذ والإعلاميَّ والفيزيائي والاقتصادي والكهربائي والتقني والتاجر… فما الذي أنتجته القطاعاتُ الأخرى التي يحسبها الجاهلون منتجةً!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.