لعله سؤال جدلي وإشكالي هو ذلك المثار بصوت مكتوم بين كثيرين من الفلسطينيين، عن التباس معاني "وحدة الساحات"، الذي نُسج في سردية ما يسمى "محور المقاومة والممانعة".
وباستثناء النظام السوري لنفسه من هذا المحور، بعد أن رُكزت مهمة "حماة الديار"، شعاراً وتطبيقاً، على ارتكاب جرائم لا تقل عن جرائم الإبادة والتجويع والتطهير على يد بنيامين نتنياهو وأركانه، لتثبيت دعائم بقاء بشار الأسد، على أطلال سوريا وشعبها، يبدو أن سردية "وحدة الساحات" باقية تحت سقف وحدود ما يجري منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
فالمشاغلة "بالأسلحة المناسبة"، صارت تستدعي تهكماً لم يعُد خفياً عن "معركة ذات العواميد"، وإصابة ومقتل بعض جنود الاحتلال، حتى بين جمهور "المحور" نفسه، مع حالة اللاتناسب بين الأثمان التي تدفعها الساحة الرئيسة في فلسطين، وتلك التي في أغلبها استعراضية تسير وفق "خط أحمر" واضح منذ أكثر من 100 يوم.
ركوب موجة فلسطين
لا حاجة هنا لمناقشة "سوء فهم" أصحاب شعار "وحدة الساحات" في الحرس الثوري الإيراني، عن أن "طوفان الأقصى" كان لأجل "الانتقام لقاسم سليماني"، فالمقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها والمعنية مباشرة بـ"الزلات" حركة "حماس" ردت بما يكفي.
مع ذلك ثمة محاولات مفضوحة منذ "السابع من أكتوبر/تشرين الأول" لركوب موجة "طوفان الأقصى". بدأت بتقديم علي خامنئي على صورة النبي موسى يشق البحر، بحر المقاومة عبوراً نحو القدس.
فالشيء المثير للجدل في سرديات وتصرفات طهران وتوابعها، من العراق إلى بيروت، أنه مثلما التزم نظام الأسد في دمشق بسردية "الأمن المتبادل" بين دولة الاحتلال والأسرة الأسدية الحاكمة في الشام (تصريحات رامي مخلوف منذ بداية الثورة السورية 2011)، ظل سقف "وحدة الساحات" يدور حول نبرة خطابة مرتفع وتطبيق متواضع، مُذكراً بأن المقصود بتلك الساحات ليس غزة وفلسطين بل "المجموعات الطيعة" في طابور "فيلق القدس"، الباحث عن طريقه على أطلال مدن وجثث عربية.
فبقدر ما ترتفع شعارات "الموت لإسرائيل"، صاخبة وبضجيج التوعد "بالانتقام"، منذ أن اغتيل عماد مغنية وسط دمشق في 2008 وسمير القنطار 2015، وبقية القائمة المستمرة حتى اليوم، بقدر ما تكشف الوقائع ضآلة إرادة تجاوز ما يردده أطراف المحور عن "الخطوط الحمراء" بين واشنطن وطهران. كأن المُشاهد أمام "اتفاق جنتلمان" بدون ورقة، وبرعاية العصا والجزرة الأمريكية، ووسطائها، (الذين كانوا بالأمس القريب يطلق عليهم تسمية صهاينة، مثل عاموس هوكشتاين، في مفاوضات غاز لبنان في المتوسط)، والذين يتحولون إلى ما يشبه "رجال إطفائية" ووسطاء مقبولين للمحور.
ودائماً ما يذكر محور "وحدة الساحات" بأرقام من سقطوا بقصف إسرائيلي وأمريكي، كدلالة على أنهم بالفعل يطبقون الشعار. فهل المقياس هو عدد من قتلوا؟ وهل "السماح" لفصيل فلسطيني أو جماعة لبنانية (من خارج البيئة) العمل "مؤقتاً" وبحدود مضبوطة من جنوب لبنان، بمعية "حزب الله" وموافقته، مؤشر على تلك الوحدة؟
ما يجري في غزة ليس أقل من حرب إبادة وتدمير شامل، والمعلن منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول في تل أبيب ليس أقل من اجتثاث المقاومة الفلسطينية وتدمير وتهجير غزة. وبالتالي إصابة البعض، سواء من "جمهور المحور" أو الفلسطينيين بخيبة أمل ليس بدون أسباب، وخصوصاً حين يراجع هؤلاء ذاكرة ضجيج الشعارات الكبيرة عن "محو إسرائيل خلال دقائق"، وإبراز متواصل، لأن الاحتلال "يعرف أن الضربة من حزب الله حاسمة وماحقة"، بكثير من دغدغة عواطف شعار: "يا قدس إنا قادمون".
في ذاكرة الناس الكثير الكثير، من وزن أن أي استهداف بالاغتيال على الأرض اللبنانية سيلقى رداً هائلاً، حتى أصبح الاغتيال "روتيناً" يومياً. بل لعل الربط بين "الغزو البري" وإظهار "المحور" لأنيابه لم يُنسَ بعد. ويتذكر الجمهور، في سياق ذاكرة مليئة بالخيبات، كيف أن "الممانع" في قصر المهاجرين في دمشق، وقبل طوفان الأقصى بوقت قصير، وصف المقاومة الفلسطينية (وإعلامه يُجهلها في غزة حتى اليوم) بأوصاف لا تقل عن البروباغندا الصهيونية (في مقابلة سكاي نيوز الإماراتية) وفي تناول صحافته باعتبار "حماس خانت المقاومة". فالنظام المحسوب، بمعية مصالح طهران، على الحلف المتخيل، استمر منذ بدء الحرب على غزة وانتهاك الإسرائيليين اليومي لسيادته بالقتل والجرائم في إدلب شمالاً، وليس في الجولان المحتل جنوباً.
بل إن أمين عام "حزب الله"، الذي أعاد سيرة الظهور المتباعد، مثلما فعل في العدوان الإسرائيلي على غزة في 2021 وفي 2014: وللتذكير فقط، آنذاك رد على الخائبين بسبب عدم دخوله الحرب باعتباره يدخر قوته لأجل مواجهة مثلاً "تهجير الفلسطينيين" ومنع نكبة جديدة. فراح في ظهوره الأول بعد الطوفان يستعرض كمحلل سياسي وعسكري حرب الإبادة على غزة، واستعراض عضلات "إشغال" نسبة من جنود الاحتلال في الجليل الأعلى.
السياقات التي لم تتناول كثيراً همروجة "وحدة الساحات"، والاعتراف بأن فلسطين، وغزة على وجه التحديد ليست جزءاً منها، جاءت في إطار أن "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، لكن المعركة الطاحنة لا تجري في الخفاء، بل واضحة وضوح الجرائم الصهيونية. فتل أبيب لا يعنيها، مثلما لا يعني طهران، أن تنفتح الجبهات.
وكم من مرة سمعنا ألا طهران ولا المحور "سينجر" إلى "معركة وفخ إسرائيل"؟.
يُذكرنا ذلك بخطابات قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول عن أن "الاحتلال الإسرائيلي في أوهن حالاته"، ورغم ذلك ثمة تهكم بين الجمهور عن أن "محور وحدة الساحات" ربما ينتظر أن تصبح الدولة الإسرائيلية في "أقوى حالاتها"، من أجل فتح معركة معها، والرد على استهدافاتها التي خردقت الشام ولبنان والعراق، قصف واغتيالاً متكرراً.
قتل الاحتلال قيادات إيرانية مختلفة، مثلما تواصل اغتيال كثيرين من "حزب الله"، وبعد أن اغتال في الضاحية الجنوبية لبيروت القيادي في "كتائب القسام" صالح العاروري، وقبله آخرين في معاقل الحزب بجنوب لبنان، وواصل الصهاينة "العمل كالمعتاد"، فانتظر الجمهور رداً، على قدر الجرائم والشعارات المرفوعة، فإذا بصواريخ طهران تضرب في سوريا والعراق وباكستان.
ليتخيل المرء ما يدور في عقل صانع القرار الإسرائيلي لأجل قراءة خطوته التالية وتفكيره حيال هذا المحور.. إذا كان هذا هو الفعل المساند لغزة، وهذه هي الردود فلمَ لا أواصل انتهاز الفرصة والضرب بقسوة لاستعادة "الهيبة" و"الردع"؟. يقولون: إن نتنياهو يسعى لتوسيع الجبهة للهروب من مأزقه، ويبدو أن المحور لا يعنيه سوى تفويت فرصة هروب نتنياهو.
وذلك ما جرى منذ اغتيال الشيخ العاروري، عربدة واستهدافات أعمق، والرد عليها بذات وتيرة "الخطوط الحمراء".
بالطبع سيجد بعض "النواة الصلبة" في بروباغندا الركوب على ظهر فلسطين، ألف مربع ودائرة لفلسفة الالتفاف على حقائق الأرض. فمواصلة عنترية الشعارات لا توقف الصهاينة عن الخردقة والعربدة، طالما أن سقف الرد هو السباحة عند الشواطئ، بعيداً عن العمق.
وحتى يكون واضحاً، فالبعض يردد بكلمات يصعب نقلها بحرفيتها، لكن نضعها في سياق "صوت معك أفضل من صوت عليك". ذلك في مقاربات بين مواقف "المحور" ومواقف الأنظمة العربية المتخاذلة، بل الراغبة باجتثاث المقاومة وتصفية قضية فلسطين. وإذا كان ثمة صحة نسبية في الرأي، فلا يمكن إغفال الفارق الضخم بين أن لا تكون أصلاً الأنظمة صاحبة شعارات مواجهة الاحتلال ودعم المقاومة، والادعاء المقابل عن أن كل وجود المحور شرعيته في قضية فلسطين، وفي شعار مقاومته للمشروع الصهيوني.
شيء من التاريخ قد ينفع في التذكير
وبينما أصحاب "وحدة الساحات" يحاولون بانتهازية تسويق شعارات شعبوية يظهر بأسهم وقتلهم في الساحات العربية، وبحسب بوصلة طهران.
شيء من التاريخ القريب قد ينفع في التذكير بلعبة سمجة ودامية.
فهؤلاء الذين تحولوا في العراق بقدرة طهران إلى "محور المقاومة" (والمضحك المبكي أن نوري المالكي عُد يوماً في صفوف المحور) هم أنفسهم الذين جاءوا على الدبابة الأمريكية ليلاحقوا فلسطينيي العراق، ويستهدفون وجودهم جسدياً لتهجيرهم نحو التنف السورية ثم إلى تشيلي والبرازيل وغيرهما. وهم أنفسهم الذين، بمعية نظام بشار الأسد، المرعوب في 2003 من فض الأمريكيين مباركة مادلين أولبرايت توريثه حكم أبيه، سلموا الاحتلال الأمريكي في العراق أمين عام "جبهة التحرير الفلسطينية"، محمد عباس "أبو العباس"، ليقتل في بغداد 2004.
فهل مُهجرو فلسطينيي العراق، ومدمرو مخيم اليرموك، ورافضو عودة أهله جنوب دمشق، ورافعو رايات طائفية مقيتة، يحبون فلسطين بدون شعبها؟.
في نهاية المطاف، ما من شك أن جمهوراً واسعاً في محور "وحدة الساحات"، من اليمن إلى العراق فبيروت، مؤمن بالفعل بأنه يتوجب مواجهة دولة الاحتلال الإسرائيلي بشكل جدي، لا استعراضي. وربما حان الوقت لأن يطرح هذا المحور الأسئلة والأجوبة، فإما الكف عن المتاجرة بقضية فلسطين ومقاومتها الجادة على أرضها وعن بيع أوهام عن "حرق تل أبيب في 7 دقائق"، أو أن يظهروا أنهم بالفعل يفهمون ما يقوم به المشروع الصهيوني في غزة والقدس والضفة وكل أرض فلسطين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.