إن السرَّ في شخصية نور الدين محمود زنكي هو شعوره بالمسؤولية والأمانة في قيادة الأمة الإسلامية، وخوفه من محاسبة الله له، وإيمانه باليوم الآخر، وحرصه على تحرير البلاد من الصليبيين، وكان هذا الشعور سبباً في التوازن المدهش، والثقة، والعزيمة، فقد كان على فهم صحيح لدور الحاكم المسلم، واعتمد في إدارته لدولته على إيمانه وعدله، واهتمامه بالعلم والعلماء، وحشد أهل الرأي من ذوي العلم والخبرة في أمور الفقه والسياسية والقيادة، وكانت لديه حنكة كبيرة في إدارة شؤون الرعية والبلاد.
نور الدين زنكي ومنهجه في بناء العقيدة الصحيحة والإصلاح التربوي
ألهم الله تعالى قادة الأمة من أمثال نور الدين محمود بإدراك دور العقيدة الصحيحة في تحقيق النصر، وأن الأمة من دونها تتحول إلى قطيع من الأغنام لا تقوى على شيء، ولذلك فإن أول ما بدأت به عملية التغيير والإصلاح والتجديد عند نور الدين محمود هو إعادة بناء العقيدة في النفوس، وصياغة الإنسان المسلم على التوحيد الخالص، بتجديد العقيدة في نفوس الناس، وإزالة كل ما علق بالنفوس من بدع وعقائد فاسدة، ولذلك راحوا يواجهون التحديات الباطنية في إفساد العقائد الإسلامية بنشر العقيدة الصحيحة عن طريق مؤسسات تُجسد العقيدة في النفوس، وواقع الحياة اليومية عن طريق التعليم الإسلامي النقي في عدد من المدارس والمساجد التي أُنشئت وأُعدت لهذا الغرض، وقام بالتدريس فيها صفوة من علماء الأمة وخيرة مفكريها، وقد كان للسلاجقة في ذلك الوقت دور مهم في إنشاء المدارس على مذهب أهل السنة والجماعة والعقيدة الصحيحة، ومنها على سبيل المثال المدارس النظامية (التي أسسها الوزير السلجوقي نظام الملك)، حيث واجهت الدولة السلجوقية ورجالها العظام الخط الشيعي "العبيدي" الذي انتشر في مختلف البقاع الإسلامية، وخصوصاً في مصر والشام.
تحرك نور الدين في مشروعه من خلال بناء ودعم مؤسسات المجتمع المدني، كالكتاتيب والمدارس والمساجد والوقفيات الخيرية والتربوية، وبناء الرباطات، وأخذ بكل الأسباب المادية والمعنوية التي تعينه على تحقيق الهدف المنشود من صبغ الدولة النورية ورعايا الدولة من المسلمين بالكتاب والسنة، ولا شك أن هذا يدل على أهمية التربية العقدية والفكرية والثقافية في التمكين للإسلام الصحيح في نفوس الناس، ومما ساعد نور الدين محمود على تحقيق برنامجه الإصلاحي أن جهوده جاءت مُكملة لجهود المدارس النظامية، فانتفع بما حققته من نتائج، وفي مقدمتها تخريج جيل يحمل على عاتقه مهمة الدعوة للمذهب السني، والانتصار له.
شهدت جميع المجالات والميادين في زمنه ازدهاراً ونضجاً وتنظيماً، بالإضافة إلى أنه حفظ المشروع الإسلامي النوري من التصدع والزوال، وما كان للدبلوماسية النورية أن تنجح لولا الله وتوفيقه، ومن ثم مساندتها بقوة عسكرية ضاربة، استطاعت مواجهة التحالف العسكري البيزنطي- الصليبي، وتمكن من خلال جهوده، وتجهيزه، وهدفه الاستراتيجي النهضوي، وحنكته السياسية، ودهائه العسكري من توحيد قلب العالم الإسلامي تحت لواء الإسلام، ودمجه، وطرد الغزاة منه.
نور الدين زنكي: اهتمامه وعنايته بالعلماء
استطاع نور الدين زنكي أن يستغل بذكاء مواهب العلماء البارزين في عصره، ويستعين بهم في دعم المذهب السني، وكانت شخصيته من أهم العوامل التي ساعدته على النجاح في المهمة التي سعى إلى تحقيقها، ومن الصفات التي كان يمتاز بها أيضاً ثقته المطلقة بالعلماء، حيث كوّن مجلساً عاماً يُشرف على العملية التعليمية، والصياغة التربوية، يضم أهل الحل والعقد، وكبار العلماء المخلصين، والقادة العسكريين، والفقهاء العاملين، وكان نور الدين أحد أعضاء هذا المجلس الأعلى الذي يُشرف على التخطيط العام والشامل، وكان يجلس مع العلماء والشيوخ يتدارسون الأمور وما يحقق المصلحة الإسلامية، ورسم هذا المجلس الأعلى للتخطيط والتنسيق بين السياسات العامة الواجب اتباعها نحو إعداد الأمة الإسلامية كلها إعداداً جديداً، وبنائها بناءً سليماً على المنهج النبوي والراشدي.
نور الدين محمود.. تأسيس المدارس وشمولية التعليم
أدرك نور الدين زنكي ضرورة تأسيس عشرات المدارس، ونشر التعليم الإسلامي في جميع أنحاء البلاد، كما قرر بناء مئات المساجد للقيام بواجب التزكية والتحلية بالفضائل، والتخلي عن الرذائل، واستقدم آلاف العلماء، والمربين المشهورين للقيام بواجب التدريس في المدارس، والتوجيه في المساجد، وكان العلماء في عهده لهم دور بارز في ذلك، وهم من خريجي المدرستين الغزالية والقادرية، ولم يكن التعليم لدى دولة نور الدين مجرد نشاط أكاديمي يستهدف توفير الموظفين والمهنيين، وإنما كان بالدرجة الأولى نشاطاً عقائدياً استهدف إعادة صياغة الجماهير المسلمة بما يتفق وأهداف الإسلام، والحاجات القائمة، وقد أعطت الاستراتيجية الزنكية أهمية خاصة لتعليم كافة مواطني الدولة من عمال ومزارعين وصغار كسبة، من الكبار والصغار والرجال والنساء، وتأسست الخطة على تعليم الجميع أصول العقيدة السنية، وأركان الدين، والقيم والمبادئ الإسلامية.
التعليم لمواجهة المذاهب الهدامة، وركيزة من ركائز جهاد النفس والعدو في عهد نور الدين
عمدت الخطة الحكيمة لنور الدين زنكي على تعرية المذاهب الهدامة والفرق الضالة، وأبانت عن خطرها وضررها على النفس والمجتمع والأمة، وأن لا خروج من المحنة ولا خلاص من الضياع إلا بالعودة إلى روح الدين النقية في صورتها الأولى، والتزمت الدولة الزنكية بالإسلام عقيدة وعملاً ومنهجاً، والتزمت بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة للجميع، فأصلحت ما يمكن إصلاحه، ونشرت السلوك الإسلامي وفق منهج أهل السنة والجماعة، إلى جانب المدارس والمساجد، في التوجيه والإرشاد والتعليم والتهذيب حسب الخطة العامة للدولة، وتحت إشراف المجلس التعليمي الأعلى.
وقد وجَّه التعليم الإسلامي عنايةً خاصةً لإعداد الأمة كلها للجهاد بكافة أنواعه من الإعداد المادي والمعنوي، وتربية النفوس ومجاهدتها لنيل رضا الله، ومجاهدة الشيطان، والجهاد بالمال والنفس، وتربية الإرادة القتالية عند جميع أفراد الأمة، دون أن يقتصر ذلك على طائفة دون أخرى، بالإضافة إلى طائفة مختصة عنت الدولة بإعدادها إعداداً قتالياً خالصاً، وتدريبها تدريباً عسكرياً متميزاً يجعلها تتفوق على ما عند الأعداء.
انتصر نور الدين على نفسه، قبل أن يواجه أهله ورعيته بسياسته التقشفية، فاستطاع بإيمانه القوي أن يتجرد من أهواء الدنيا، ومغريات الملك، ومظاهر البذخ والترف، وألزم نفسه بالعيش المتواضع دون أن يفقد شيئاً من هيبة السلطان، وقوة الحكم، كما أثمرت جهود نور الدين وقيادته الحكيمة بناء مجتمع تكافلي في بلاد الشام، وصار التعاون والتراحم والمودة والمواساة سمات بارزة في المجتمع، وبذل من البذل الكبير سعياً منه إلى إنشاء جيل جديد سليم العقيدة صحيح المنهج، والتفكير، ومستعداً للمهمة الكبرى بعد التمكين، وهي التحرير والنصر على الغزاة الطامعين.
كان نور الدين محمود زنكي مثلاً أعلى، وقدوة حسنة في الذكاء السياسي، والإقدام العسكري، والعدل بين الناس، والإحسان للمستضعفين، وكان منهجه قائماً على العدل بين الناس، وقد نجح في ذلك على صعيد الواقع والتطبيق نجاحاً منقطع النظير، حتى اقترن اسمه بالعدل، وسُمي الملك العادل.
وكان من أسباب نصر الله تعالى لهذا الملك العظيم على الصليبيين، وتوحيد قلب العالم الإسلامي تحت قيادته؛ تمسكه بالعقيدة التوحيدية النقية، ودفاعه عن شرف الأمة وعزها، وتحقيقه للعدل بين الرعية، ورد الحقوق إلى أهلها، وإنصاف المظلومين، وهو ما بعث في الأمة الإسلامية روح العزة والكرامة والإباء والمقاومة والتمكين، وأسس جيلاً مؤمناً بعقيدته ومبادئه الإيمانية ورسالته الحضارية، ومتعلماً، وقوياً، وقد دوّن التاريخ اسم نور الدين محمود زنكي كقائد إسلامي مجاهد وعادل، ازدهرت دولته، وارتفعت منزلة المسلمين بعد أن قادهم في طريق التمكين والتحرير والنصر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.