في بانوراما أدب الحرب، هناك القليل من الروايات التي تصور العبثية العميقة للحرب بشكل مؤثر، مثل رواية "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" للكاتب والجندي الألماني السابق إريك ماريا ريمارك، الذي شارك في الحرب العالمية الأولى، فنجح في أن يقدم لنا تحفة أدبية عن الميدان، تدور أحداثها خلال تلك الحرب. لا تأتي الرواية فقط كسرد ولكن كتعليق عميق على العبث والفوضى المتأصلة في الحرب، من خلال عيون الجندي الألماني الشاب بول بومر، الذي ينسج خيوط الرواية كرحلة عاطفية وإدانة نقدية لوحشية الحرب في أوروبا التي لا معنى لها.
منذ البداية، تغمر الرواية القارئ في التنافر بين وجهات النظر الرومانسية للحرب وحقائقها القاسية، إذ يلتحق بول وزملاؤه، الشباب المتحمس، والذي تغذيه الحماسة القومية، مدفوعين بالخطابة الممجدة لمعلمهم، كانتوريك. ومع ذلك، سرعان ما ينكشف هذا التمجيد، ويكشف سخافة وضعهم الخام وغير المفلتر. وبواقعية شديدة يرسم الكاتب ساحة المعركة، بعيداً عن كونها أرضاً للشرف والبسالة، يصورها على حقيقتها كونها أرض معركة لا هوادة فيها، لا ترى فيها شيئاً إلا القسوة الإنسانية.
رواية "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" لا تكمن براعتها فقط في تصوير أهوال الحرب الجسدية، الجثث المشوهة، ونيران المدفعية المتواصلة، والتهديد الدائم بالموت في كل مكان وكل لحظة، بل تكمن براعة الكاتب أيضاً في تجسيد وتشخيص الاضطرابات النفسية التي تسببها الحرب، فمن خلال مونولوج داخلي لبطل الرواية ننظر بعمق عبر نافذة هذا الاضطراب، فيستطيع القارئ أن يشعر بما يدور داخل ذلك الجندي الشاب على الجبهة، ويفهم أحاسيس التأرجح بين الانعزال المخدر والفزع الوجودي العميق، بندول يتأرجح على إيقاع الحرب من حوله، فندرك مدى هشاشة الإنسان.
ولعل الجانب الأكثر لفتاً للانتباه في الرواية هو تصوير ريمارك للموت، في روايات الحرب، غالباً ما يأتي الموت مصحوباً بشعور بالعظمة أو المأساة، ولكن في "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية"، يكون الموت عادياً، ويكاد يكون عرضياً، كحدث يومي يفقد قيمته الصادمة مع تكراره. إن هذه المعاملة للموت في سياق الحرب تنزع الرومانسية الزائفة وتدعنا أمام شرورنا. فنرى في أغلب الحروب، ولاسيما التي قادتها أوروبا باسم القومية والوطنية، أن الجنود لا تموت في قتال مجيد، بل في ظروف عادية، وفي كثير من الأحيان لا معنى لها؛ من رصاصة طائشة، أو هجوم غاز غير متوقع، أو ظهور مفاجئ للمرض. وهكذا، يصبح الموت حقيقة مبتذلة للحياة، ويجردها من المعنى ويعزز التيارات العدمية الخفية للسرد.
ورغم سوداوية الرواية إلا أن ريمارك كان منصفاً في رسم البعد الإنساني، فنجد الصدى العاطفي للرواية في تصويرها الثابت لتجارب الجنود؛ صداقتهم الحميمة، ومخاوفهم، وأفراحهم العابرة، وخيبة أملهم المشتركة. حيث كانت العلاقة بين بول ورفاقه، وخاصة صديقه المقرب كاتشينسكي، بمثابة منارة للإنسانية وسط ظروف الحرب المهينة للإنسانية. تفاعلاتهم، المليئة بالفكاهة السوداء ولحظات المودة الحقيقية، توفر تناقضاً صارخاً مع الفوضى المحيطة، وتسلط الضوء على عبثية الحرب التي قلبت حياتهم رأساً على عقب.
بينما يتنقل بول في مشهد الحرب، تزداد أفكاره استبطاناً وخيبة أمل، يدرك الطبيعة التعسفية للصراع، وعبثية العداء بين الجنود الذين ربما كانوا أصدقاءً في ظل ظروف مختلفة. يبلغ هذا الإدراك ذروته في أحد أكثر مشاهد الرواية إثارة للمشاعر، حيث يطعن بول، في لحظة يأس، جندياً فرنسياً، ليقضي ساعات مع الرجل المحتضر، مستغرقاً في الشعور بالذنب والشعور العميق بالإنسانية المشتركة.
إن القوس السردي لرواية "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" ليس قوس انتصار أو حل، بل هو تفكك تدريجي للمثل العليا، والأمل، للبطل نفسه. وفي صفحاتها الأخيرة، تقدم الرواية تعليقاً لاذعاً على عبثية الحرب. إن وفاة بولس، التي حدثت قبل الهدنة مباشرة، هي رمز للخسارة غير المعقولة في الأرواح التي ميزت الحرب بأكملها. إنها نهاية هادئة، خالية من الدراما أو البطولة، وتعكس رسالة الرواية الشاملة: في مسرح الحرب الكبير، تصبح حياة الأفراد ووفياتهم غير ذات أهمية، وتضيع في بحر من المأساة الجماعية.
في الختام.. "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" هي أكثر من مجرد رواية عن الحرب؛ إنها تأمل عميق في عبثية الصراع، وهشاشة الحياة، وفقدان البراءة. تقف تحفة ريمارك بمثابة تذكير خالد بتكاليف الحرب، ليس فقط في الأرواح المفقودة ولكن في الدمار الروحي والأخلاقي الذي تخلفه في أعقابها. من خلال سردها المؤثر وعمقها العاطفي، تدعو الرواية القراء إلى التفكير في مفارقة الحرب؛ خلق بشري يجرد الإنسان من إنسانيته، وسعي لتحقيق النصر الذي يبلغ ذروته بهزيمة جماعية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.