المعركة التي تُخاض أمام أي محكمة جديرة بهذه التسمية، كمحكمة العدل الدولية، هي أساساً معركة قانونية للبتّ بقضية قانونية محددة وفقاً للقانون (هنا القانون الدولي)، وهذا ما تفعله جنوب أفريقيا بجدارة أمام محكمة العدل الدولية.
أما الاستثمار السياسي والعاطفي في هذه المعركة القانونية، الذي يبرع فيه مثقفون وإعلاميون وقوى سياسية من العالم العربي، فضلاً عن يسار أوروبي معين، فهو يغذي آمالاً قد تكون غير واقعية فيما يتعلق بالنتيجة القانونية للتقاضي.
فأمام مواجهة الشعور بالظلم الهائل، الناجم عن التواطؤ التاريخي للغرب مع إسرائيل ودفاعه الأعمى عنها (ألمانيا مثالاً)، ولا سيما في المذبحة الجارية منذ أكثر من مئة يوم في غزة، فضلاً عن معايير هذا الغرب الأخلاقية والقانونية المزدوجة التي تنمّ عن شعور بالفوقية العنصرية، فإن هذا الاستثمار السياسي والعاطفي في معركة قانونية من قِبل دول الجنوب العالمي وشعوبها أمر مفهوم.
تشعر الشعوب العربية تحديداً- عن حق- بظلم كبير، ولا سيما أنه غالباً ما يجري تأثيمها بإجحاف كبير، وهي كمن يبحث عن قارب نجاة في العالم لنجدتها، عن قلب حنون على هذه الأرض يُنصفها، ولو قليلاً، ولذلك هي تُقدِّر كثيراً ما فعلته جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية.
ولكنّ الاستثمار السياسي العاطفي يتخطَّى ذلك ليقع في نوع من الشعبوية، فهو يقوم على قياس جدية مسار قضائي ليس بناء على قدرته على الوصول إلى النتيجة القانونية المتوخاة في قضية قانونية محددة، بل بقدرته على والدعاية السياسية (بغض النظر عن أهميتها)، ولا سيما بقدرته على تحويل قضية قانونية محددة بين أطراف محددة إلى كباش سياسي عالمي، ناهيك عن تصوير المحكمة كساحة للصراع من أجل التصدي لهيمنة ثقافية وموازنتها، أو من أجل تحقيق هيمنة ثقافية جديدة مواجهة.
من البديهي القول إنه لا يمكن إغفال الجانب العاطفي والسياسي في قضية قانونية من هذا الحجم، ولكن من الضروري عدم تغوّل هذا الجانب السياسي العاطفي وطغيانه على الجانب القانوني في النظرة للقضية المقدمة أمام محكمة العدل الدولية، لأنه إذا لم يتم احتواء هذا الاستثمار وضبطه، فسينتج عنه مزيد من تضليل الجمهور، على الأقل فيما يتعلق بثلاث نقاط أساسية.
1) هذا الاستثمار السياسي العاطفي يجعلنا ننسى أن القانون لا يعرف العواطف، خاصة أن إثبات جريمة الإبادة الجماعية، ولا سيما العنصر المعنوي فيها (النية الخاصة) هو أصعب ما يمكن إثباته في القانون الدولي الجنائي. بكلام آخر، إن هذا الاستثمار السياسي العاطفي في هذا المسار القضائي المحدد يجعلنا ننسى أن الأمور هنا ما زالت بعيدة عن الحسم، وذلك خلافاً لما يزعمه العديد من المثقفين والإعلاميين في العالم العربي الذين يستسهلون حسم الأمور من الآن بمبالغات كبيرة.
فرغم أهمية الأدلة المقدمة من قبل جنوب أفريقيا فإنها لا تبدو كافية، في وضعها الحالي، لإثبات الإبادة الجماعية بالنظر لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لسنة 1948. وفي كل الأحوال، فإن حدوث الإبادة الجماعية سوف يتطلب إثباته عدة سنوات، ولا سيما أن اجتهادات سابقة لكل من المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا، تعتمد تفسيراً مقيداً لعناصر جريمة الإبادة، خصوصاً بما يتعلق بالنية الخاصة في الإبادة.
فمثلاً، في حكمها الصادر بتاريخ 2/ 8/ 2001، عن غرفة الدرجة الأولى، تعتبر المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في قضية "كرستيتش"، المتعلقة بجريمة الإبادة التي حصلت في سربرنيتسا في البوسنة أنّه: "في مثل هذه الحالات من الاشتراك الجماعي يجب أن تكون نية تدمير مجموعة بحد ذاتها، كلياً أو جزئياً، واضحة في العمل الإجرامي نفسه، بصرف النظر عن النية لدى مرتكبي الجريمة المعينين" (الفقرة 549). "ولذلك ترى غرفة الدرجة الأولى أن نية تدمير مجموعة ما، حتى ولو جزئياً، تعني السعي إلى تدمير جزء متميز من المجموعة بدلاً من تراكم أفراد معزولين داخلها.
ورغم أن مرتكبي جريمة الإبادة الجماعية يحتاجون إلى السعي إلى تدمير المجموعة بأكملها التي تحميها الاتفاقية، فإنهم يجب أن ينظروا إلى الجزء من المجموعة الذين يرغبون في تدميره باعتباره كياناً متميزاً يجب القضاء عليه بهذه الصفة. إن الحملة التي تؤدي إلى قتل عدد معيّن من أعضاء مجموعة محمية في أماكن مختلفة منتشرة على منطقة جغرافية واسعة، قد لا تعتبر بالتالي إبادة جماعية، رغم العدد الإجمالي المرتفع للضحايا، لأنها "لن تظهر نية من قبل الجناة لاستهداف وجود الجماعة في حد ذاتها" (الفقرة 590)، فـ"التدمير الانتقائي للمجموعة" يجب أن يكون "له تأثير دائم على المجموعة بأكملها"، وذلك مثلاً "التأثير الكارثي الذي قد يخلفه اختفاء جيلين أو ثلاثة أجيال من الرجال على بقاء المجتمع الأبوي التقليدي" (الفقرة 595 من الحكم).
أمام هذه المعايير الموضوعية المقيدة والمشددة والصعبة التحقق، التي اعتمدها الاجتهاد الدولي لإثبات النية الخاصة في الإبادة، الخطر هو في أن نستيقظ بعد بضع سنوات على خيبة أمل كبيرة، خاصةً بسبب التناقض بين الآمال الوهمية الكبيرة التي يغذيها الاستغلال السياسي العاطفي لصراع قانوني من ناحية، وبين الظروف القانونية الواقعية الدقيقة للقضية المحددة موضوع هذه المعركة القانونية من جهة أخرى.
2) أما بالنسبة للمرحلة الأولى من المسار القضائي هذا، أي مرحلة التدابير الاحترازية المؤقتة، فمن المرجح أن تصدر محكمة العدل الدولية، في غضون أسابيع قليلة، قراراً أولياً بالوقف الفوري للعمليات العسكرية، وذلك بناء على حجج "معقولة" (ولو ضعيفة) عن حدوث إبادة. ولكنّ تاريخ الممارسات الإسرائيلية التي تضرب عرض الحائط بالقانون الدولي من جهة، ولا سيما التصريحات الأخيرة لرئيس وزرائها، بأن "لاهاي لن توقفنا"، بالإضافة إلى الممارسات السابقة لدولة أخرى في قضية مماثلة (روسيا تجاهلت أمراً مماثلاً من المحكمة بشأن حربها في أوكرانيا)، كلها تشير إلى عدم فاعلية متوقعة لمثل هذا الأمر.
3) علاوة على ما تقدم، فبينما نبتهج ببعض المرافعات النارية (على أهميتها)، ننسى الأمر الأساسي، ألا وهو أن المذبحة ضد الشعب الفلسطيني مستمرة، وأنها سوف تستمر على الأرجح، أو لا، ولكن بالحالتين سيكون ذلك لدوافع وحيثيات واقعية مستقلة عن جميع التدابير الاحترازية، التي يمكن أن تتخذها محكمة العدل الدولية.
بكلام آخر، غالباً ما يتلهّى أكثرنا بالمواجهة السياسية العامة القائمة بين الجنوب العالمي والغرب أمام المحكمة، على هامش القضية المحددة المرفوعة أمامها، ولكننا ننسى الأهم والأساسي، ألا وهو تقييم الفائدة الملموسة لمثل هذا المسار القضائي فيما يتعلق بأولئك الذين نسعى إلى حمايتهم. إننا ننسى النقص العام في فعالية مثل هذا المسار القضائي لوقف المذبحة بحق الشعب الفلسطيني.
لكي يكون فعالاً حقاً، فإن النضال السياسي، مثل صراع الجنوب العالمي ضد الغرب، وهو نضال محق وضروري جداً، يجب أن يجري في أماكن أخرى، ولا سيما من خلال ممارسة الضغط لإصلاح المؤسسات السياسية الدولية، مثل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. فمجلس الأمن فعال جداً في وقف الحرب وحماية المدنيين، فضلاً عن أنه بإمكان هذا المجلس، بناءً على نظام روما الأساسي (المادة ١٣-ب)، معطوفاً على الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة، أن يحيل إلى المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من الجرائم التي ينص عليها نظام روما قد ارتكبت، ناهيك عن أنّ مجلس الأمن يمكنه فرض محاكم جنائية خاصة، كما حصل في حالتي روندا ويوغسلافيا السابقة، وهي فعالة جداً، كما أثبتت التجارب السابقة، في ملاحقة مرتكبي انتهاكات القانون الدولي الإنساني، ولا سيما مرتكبي جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وحتى جريمة الإبادة.
بالمحصلة، أمام محكمة العدل الدولية ستخاض معركة قانونية بمفاهيم قانونية للفصل في نزاع قانوني محدّد، وذلك ليس بناء على السياسة، ولا على العواطف، بل بناءً على القانون، وعلى والقانون وحده.
وعليه، فإن محاولات الاستثمار السياسي المفرط في المعركة القانونية، والغلو في إضفاء طابع عاطفي عليها، قد تؤدي كما حاولنا تبيانه أعلاه إلى إلحاق الضرر بالجهة التي تقوم بذلك، أكثر من أي جهة أخرى.
فالوقوع في الأوهام وتعليق الآمال الكبيرة المبالغ فيها، بعيداً عن الواقعية، يحتوي على خطر أن تستفيق، بعد حين، على خيبة الأمل. فمزيد من الشعور بالظلم والألم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.