يُقال إن ما بعد الكولونيالية محض خيال أدبي، وهذا يعني أن سياسة التوسع والاستيطان التي تعتمدها الدول الغربية لا تزال قائمة، ولكن بأدوات حديثة. وبهذا فإن الدعاية السياسية القائلة إن الغرب هو المدافع الوحيد عن حقوق الإنسان وعن الديمقراطية، لم تعد صالحة في هذه الأيام، فبينما أشغلت جنوب أفريقيا العالم بمرافعتها التاريخية بمحكمة العدل الدولية، وجعلت إسرائيل تمثُل أمام المحكمة، متهمةً إياها بجريمة الإبادة الجماعية شاهدنا بريطانيا وأمريكا تدكان اليمن بالصواريخ، والسبب توقف شركات الشحن عن عبور البحر الأحمر؛ فالحوثيون جعلوا السفن الإسرائيلية أهدافاً أثناء الحرب على غزة.
أمريكا، تلك المستعمرة البريطانية، لم تتخلَّ عن سياسة التوسع، فهي تطمح إلى تحقيق أهداف جيوسياسية كبيرة، وهذا ما يتناسب مع سياستها الإمبريالية في المنطقة التي تحاول فرض وجودها بالقوة العسكرية التي تسخرها لخدمة مصالحها الإقليمية. وبريطانيا لها باع طويل في سياسة التوسع وخبرة واسعة في التوسع الإمبريالي على حساب الشعوب، وهي مستعدة لقتل الملايين من اليمنيين في سبيل ضمان عبور السفن التابعة لشركات الشحن، وهذه الأطماع الإمبريالية قديمة ومتجذرة.
داخل مجلس الأمن تمتلك أمريكا حق النقض، وهو أسلوب من أساليب الإمبريالية السياسية التي تنتهجها الإدارة الأمريكية المتفانية في الدفاع عن الاحتلال الإسرائيلي، المتهم بجريمة الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية، وقد شاهدنا أداء فريق الدفاع الإسرائيلي وحُججه الضعيفة بعد تهمة الإبادة الجماعية والنية المسبقة على ارتكاب جريمة الإبادة التي أجاد الفريق القانوني لجنوب أفريقيا عرضها بشكل متسلسل وعقلاني ومنطقي، وبأسلوب قوي ومرافعة مُحكمة قدمها الفريق للمحكمة.
وما بين حرب أوكرانيا وروسيا سقط الغرب أخلاقياً وسياسياً. ومع جرائم الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة تضاعفت سقطات الدول الغربية، ولن تستطيع الدول الغربية تجاوز تلك السقطات، وبهذا قضوا على تاريخ طويل من التنظير السياسي حول الإنسان والحرية والعدالة والمساواة، ذلك الإنسان الذي وصفه هوبر بالتوحش، وذلك الإنسان الذي ناضل عن حريته لوك، وتفلسف من أجل حقوقه المدنية روسو، وتلك الدول التي وصفها يوماً ما فلاسفة التنوير الأوروبي بأنها دول جاءت لحماية الإنسان والمحافظة على حقه المشروع، قد أصبحت الآن دولاً نازية بأهداف توسعية وثقافة إمبريالية متجاوزة للحدود.
تابعتُ الدعوى التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا على إسرائيل. وهي دعوى سامية للدفاع عن المظلومين والمطالبة بمحاسبة الظالم، وهي كذلك صورة رائعة لمفهوم العدالة، والأجمل من ذلك هو أن دولة أفريقيا قد وقع عليها الظلم في فترة ما، وعانت من نظام مستبد وحكومة إمبريالية مارست على شعب جنوب أفريقيا نظام فصل عنصري متوحش، وهنا يصبح لهذه الدعوى قيمة أخلاقية كبيرة؛ إذ تقتضي العدالة التصور الفلسفي لمعنى الظلم، وهذا ما ينطبق على دولة أفريقيا؛ لذا هي تترافع لقيمها.
وقف أحفاد نيلسون مانديلا أمام المحكمة بكل شجاعة، وسحبوا دولة إسرائيل للقضاء وعرضوا الدعوى على المحكمة. كان الفريق القانوني لجنوب أفريقيا يتحدث عن معانٍ يفهمها ويشعر بها، وهذا ما يعطي قيمة للخطاب الذي ألقاه الفريق على المحكمة ولفت أنظار العالم، كانت الدعوى مكونة من ٨٤ صفحة فيها صورة عامة عن قطاع غزة وعن جغرافيته، وكذلك أهم القضايا التي تضرر فيها سكان قطاع غزة الذين انهارت مستشفياتهم ودمرت منازلهم، وقطع عنهم الاحتلال الوقود والطاقة والماء، واستهدف جيش الاحتلال النساء والأطفال، وتوعدهم نتنياهو بالقتل، وغالانت وصفهم بالحيوانات، جميع هذه الأدلة وظَّفها الفريق القانوني لجنوب أفريقيا توظيفاً ذكياً، وانتهى الفريق إلى إقامة حجة قانونية بأدلة ملموسة، واتهموا إسرائيل بجريمة الإبادة الجماعية مع النية المسبقة، وبهذا وقعت حكومة نتنياهو المتطرفة في دائرة الاتهام أمام محكمة العدل الدولية بأدلة بمنتهى القوة.
المحكمة أيضاً لا تسلم من الضغوط الإمبريالية، وكما كان أداؤها سريعاً بمحاسبة نظام بوتين وحربه على أوكرانيا؛ إذ يعتقد بعض خبراء القانون الدولي أن الأمر مختلف مع دعوى جنوب أفريقيا على إسرائيل، وتوجد سابقة قضائية، فقد رفعت غامبيا دعوى ضد ميانمار. محكمة العدل الدولية أعلى سلطة قضائية في الأمم المتحدة، وتعيين القضاة فيها يكون ترشيحاً، ويتم انتخاب القضاة كل تسع سنوات، والمحكمة الحالية تضم ١٥ قاضياً من دول مختلفة، بالإضافة إلى قاضيين لكل من أفريقيا وإسرائيل، ونظراً لجريمة الإبادة، فإنه من المنتظر إجراء احترازات قانونية أولية في غضون أسابيع، ولا يمكن الطعن في قرارات المحكمة، بيد أنها ليست ملزمة، وقد لا تقوم الدول بالامتثال للأحكام الصادرة عن المحكمة؛ إذ ليس لها سلطة تنفيذية.
عودة الإمبريالية هي ما يشاهده العالم في الشرق الأوسط وفي سياسات الدول الغربية، وتصريحاتهم تأكيد على عودة الإمبريالية، والقصف الأمريكي والبريطاني لليمن أعاد للذاكرة العدوان الثلاثي على مصر، فهذه الدول الإمبريالية لن ترضى بوقف التجارة؛ لأن الاقتصاد هو الدافع الوحيد لبقاء المنظومة الرأسمالية، والاقتصاد هو المحرك الوحيد للسوق الذي يجذب المستهلكين، ويحقق الأرباح للمنظومة الرأسمالية؛ لذا الاقتصاد هو العقيدة الحقيقية لهذه الدول الإمبريالية العلمانية المتوحشة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.