قُوبل "إعلان أديس أبابا" -الذي تم توقيعه مطلع يناير/كانون الثاني الحالي بين قوات الدعم السريع ومجموعة من الأحزاب المدنية المتحالفة- بانتقادات واسعة النطاق رغم أن التكتل الحزبي حاول الدفاع عن الاتفاق بدعوى أن هدفه الأساسي يتمثل في التمهيد لأرضية تفاوضية تنهي الحرب المستمرة في السودان منذ 9 أشهر.
إذ وقع رئيس الوزراء السابق الذي يرأس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية "تقدم" عبد الله حمدوك ومحمد حمدان دقلو "حميدتي" على إعلان سياسي في أديس أبابا في الثاني من يناير/كانون الثاني الجاري، بيد أن كثيراً من المراقبين نظروا إلى الاتفاق باعتباره تدشيناً لتحالف سياسي بين الطرفين، خاصة أن قوى الحرية والتغيير التي تهيمن على التنسيقية المدنية ارتبطت مواقفها مع الدعم السريع منذ مشروع الدستور الانتقالي الذي أعدته لجنة نقابية من المحامين السودانيين مقربة من قوى الحرية عام 2022.
ومنذ ذلك التاريخ لوحظ أن هناك توافقاً تاماً في الرؤى بين الدعم السريع وقوى الحرية والتغيير وصولاً إلى الاتفاق الإطاري الذي جرى توقيعه في الخامس من ديسمبر/كانون الأول 2022 والذي كان من المفترض أن يمهد الطريق إلى اتفاق نهائي جديد بين العسكريين وقوى مدنية، إلا أن الحرب اندلعت في الـ15 من أبريل 2023 في أعقاب تزايد الخلافات بين العسكريين أنفسهم.
ملامح إعلان أديس أبابا
قالت المتحدثة باسم تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية "تقدم"، رشا عوض، في تصريحات صحفية عقب الاجتماع، إنه "تم الاتفاق على السعي الجاد للتوصل لاتفاق وقف عدائيات، لأن حل الأزمة الإنسانية مربوط بالتوصل لاتفاق وقف العدائيات".
وأوضحت أن الاجتماع ركّز على قضايا رئيسية منها القضية الإنسانية، حيث ناقش باستفاضة كيفية التصدي للأزمة الإنسانية وحماية المدنيين، والاتفاق على تشكيل لجان لتقصي الحقائق وبحث السبل لحماية المدنيين من الانتهاكات، وتوصيل الإغاثة للمتأثرين من النزاع عبر تدابير يتم الاتفاق عليها.
كشفت كذلك عن اتفاق الطرفَين على تشكيل لجنة فنية مشتركة لتدارس خارطة الطريق وإعلان المبادئ السياسية، على أن تتواصل الاجتماعات يوم الثلاثاء، وأكدت أن التنسيقية في انتظار ردّ الجيش السوداني على دعوة الاجتماع المشترك، لكون أن "تقدم" قضيتها الأساسية هي إيقاف الحرب.
لاحقاً، انتهى اليوم الثاني من مباحثات الكتلة المدنية والدعم السريع بالتوقيع على إعلان أُطلق عليه اسم "إعلان أديس أبابا"، ينص على "وقف العدائيات واستكمال الثورة السودانية والحكم المدني الديمقراطي"، ووفقاً للإعلان فإن قوات الدعم السريع مستعدة لوقف الأعمال العدائية بشكل فوري وغير مشروط، عبر التفاوض المباشر مع الجيش السوداني.
مؤيدون ومعارضون
فور الكشف عن لقاء التكتل المدني برئاسة عبد الله حمدوك مع قائد الدعم السريع حميدتي والتوقيع على اتفاق المبادئ، انقسم الرأي العام في السودان بين مؤيد ورافض للقاء، المؤيدون للاجتماع وإعلان المبادئ برروا موقفهم بأن تلك الخطوات تشكّل فرصة لإيقاف الحرب، ووضع حد لإنهاء معاناة الملايين من المواطنين الذين تقطّعت بهم السبل منذ 15 أبريل/نيسان الماضي.
كما أشار المؤيدون لإعلان أديس أبابا إلى أنه قد غطى جزءاً كبيراً من القضايا الوطنية الملحّة لمرحلة ما بعد الحرب، ما يجعلها كأجندة حوار وطني مستقبلي حول قضايا السلام المستدام وإعادة بناء الدولة السودانية.
وأشادوا كذلك بإعلان ميليشيا الدعم السريع استعدادها لفتح ممرات آمنة لوصول المساعدات الإنسانية إلى مناطق سيطرتها، إلى جانب الإعلان عن إطلاق سراح عدد 451 من أسرى الحرب كبادرة حسن نية.
لكنّ الرافضين يرون أن "الدعم السريع" حصل على مكاسب كبيرة من إعلان أديس أبابا كاتفاق الائتلاف معه في تحميل إسلاميو نظام الرئيس المعزول عمر البشير المسؤولية عن شن الحرب، حيث ورد في الإعلان أن (الفلول) تورطوا في إشعال الحرب للقضاء على الثورة واسترداد نظامهم البائد، وذلك ادعاء لم يتم الاستيثاق من صحته، بل إنه يتناقض مع الفقرة التاسعة من الإعلان ذاته، تنص على تشكيل لجنة "ذات مصداقية" لكشف من أشعل الحرب.
كما يرى المناهضون للإعلان أنه يُبقي على وجود الدعم السريع في المواقع التي يحتلها، بما في ذلك منازل المواطنين، ويعتقدون أنه كان ينبغي أن ينص على سحب عناصر الدعم السريع إلى معسكراتها السابقة تحت أي ضمانة أو حماية دولية، وعودة الجيش إلى مواقعه العسكرية، إلى جانب نشر الشرطة في الأحياء والأسواق والأماكن العامة.
وكذلك يجادل منتقدو الاتفاق بأنه يُشرعن كل الجرائم التي تورّطت فيها الدعم السريع، من قتل الأبرياء ونهب ممتلكاتهم، واغتصاب النساء، واحتلال المنازل، وتدمير المرافق العامة والخاصة.
مخاوف من زيادة حدة الاستقطاب السياسي
في رسالة مفتوحة إلى رئيس الوزراء السابق حمدوك، يقول الواثق كمير -أكاديمي ومثقف سوداني- إن "الإعلان السياسي بين حميدتي يزيد حدة الاستقطابات السياسية والعسكرية، ويدفع القوى السياسية والمجتمعية المناهضة لـ"تقدم" إلى التحالف مع الجيش، ما يرسخ لوجودها كحزب سياسي".
واعتبر كمير "إعلان أديس أبابا" تدشينَ حاضنة سياسية جديدة تهزم فكرة المشاركة الواسعة من القوى الوطنية التي يدعو لها حمدوك عبر جمع الفرقاء، واتهم ضمناً قوى الحرية والتغيير باستغلال الإعلان لخدمة هدفها في البحث عن السلطة بالرجوع إلى ما قبل حرب 15 أبريل/نيسان الماضي.
كما وجّه الأمين العام السابق لحزب الأمة القومي عبد الرحمن الغالي انتقادات إلى الإعلان، ودعا إلى إضافة كتل فاعلة في العملية السياسية وعدم استثناء حزب المؤتمر الوطني الحاكم سابقاً؛ لأنه إذا كان متهماً بإشعال الحرب، فإن جهود وقف الحرب تتطلب الحوار معه، وفقاً لتعبيره.
ويرى الغالي في تدوينة على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أن من مكاسب الدعم السريع من الإعلان الإفلات من إدانة انتهاكاته وإيكال ذلك للجنة تحقيق لتثبت هل ارتكبت قوات الدعم السريع انتهاكات أم لا، مشيراً إلى أنه لم يُطلب من الدعم السريع خروج قواته من منازل المواطنين ولا الأعيان المدنية، ومع أنه (الإعلان) تحدث عن إطلاق سراح المعتقلين إلا أنه أغفل الحديث عن الرهائن والمختطفات والعنف الجنسي.
كان من اللافت أيضاً، أن الدبلوماسي الأمريكي السابق كاميرون هدسون، قد وجّه انتقادات لاذعة لاجتماع تنسيقية القوى المدنية "تقدم" برئاسة حمدوك مع محمد حمدان دقلو، واتهم التنسيقية المدنية بالعمل لصالح قوات الدعم السريع والإمارات العربية المتحدة.
وقال هدسون في سلسلة منشورات على منصة إكس، رصدها كاتب المقالة: "قوات الدعم السريع لم ولن تغير مواقعها.. إنها ميليشيا إبادة جماعية ظلت وفية لطبيعتها منذ 15 أبريل/نيسان. كما أنها تلتزم بالتزامات ليس لديها نية للوفاء بها".
ووصف هدسون -يعمل حالياً زميلاً بارزاً في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية واشنطن العاصمة- حمدوك بأنه "شخص فشل إلى حد كبير كرئيس للوزراء"، وأن وضع الثقة فيه لقيادة الناس للخروج من هذا الكابوس الوطني سيكون قراراً متهوراً، موضحاً أن تحالف "تقدم" تم تمويله من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة.
التكتل السياسي حليف لمشروع الإقليمي يوظّف الدعم السريع
كاتب المقالة استطلع رأي الباحث في الشؤون الأفريقية عباس محمد صالح عن رأيه في إعلان أديس أبابا بين "تقدم" و"الدعم السريع"، فردّ بالقول: "مضمون إعلان أديس أبابا يندرج ضمن استراتيجية إقليمية تقوم على مراحل وأدوار مرسومة مسبقاً وبعناية من قبل أطراف خارجية تُستخدم فيها القوى المدنية لغسل الصورة الشائهة لقوات الدعم السريع التي تحولت من قوات نظامية إلى ميليشيا، وبالتالي شرعنة هذه الميليشيات في مخيلات أفراد الشعب وقطاعاته المختلفة".
ويضيف صالح: "إن قبول القوى المدنية لعب هذه المهمة القذرة موقف غير أخلاقي خصم كثيراً من رصيدها السياسي لدى الشعب، كما قضى تماماً على المستقبل السياسي لهذه المجموعات والتي أصلاً كانت -ولا تزال- حليفاً للمشروع الإقليمي الذي وظّف الدعم السريع للوصول لغاياته الشريرة في البلاد"، وفقاً لوصف صالح.
موضحاً أنه من ناحية الاتساق الأخلاقي والسياسي، كان حريّاً بالمجموعات المدنية تقديم مشروع وطني مستقيل لو أنها كانت حقيقة قوى وطنية وعلى مسافة واحدة مما تسميه "طرفي الحرب"، ولكنها اختارت -نتيجة لضعفها وصراعاتها وافتقارها لرؤية سياسية حقيقية- دور التابع لمشروع إقليمي يصور ميليشيا مسلحة على أنها حامل مشروع سياسي لإعادة بناء الدولة وإرساء الديمقراطية!
وبسؤاله عن فرص نجاح الإعلان في وقف الانتهاكات التي ترتكبها "الدعم السريع"، قال صالح: "لن تتوقف الانتهاكات لأنها جزء بنيوي في تكوين واستراتيجيات قادة الميليشيا لا يمكنها الاستغناء عنها لاستقطاب العناصر للقتال ونشر الفوضى بهدف التمدد والسيطرة.. بدليل لم تفلح ما زُعم أنها لجنة حسم الظواهر السالبة في رد أي مظالم أو ثني العناصر الإجرامية بما في ذلك مستويات قيادية عليا عن الاستمرار في تلك الانتهاكات الإجرامية".
"المقاومة الشعبية" تربك حسابات الجميع
عن موقف القوات المسلحة السودانية وكيفية تعاطيها مع الإعلان السياسي، قال الباحث عباس صالح في حديثه مع كاتب المقالة: "يجد الجيش نفسه في مأزق حقيقي: فالجيش كمؤسسة لن يقبل بهذه التسوية، ولكن الجيش كقيادة -وتحديداً البرهان- لا يزال يراهن على قبول الخارج. فقائد الجيش -كدأب المجموعات المدنية- من الواضح أنه قد رهن مصيره ومستقبله السياسي بمستقبل تسوية يدفع عليها الخارج ستُعيد إنتاج قوات الدعم السريع كمشروع حكم وتتجاهل تماماً السواد الأعظم من الشعب".
غير أن صالح يستدرك بالقول، إنّ انخراط المجتمعات المحلية في التعبئة لمواجهة تمدد الميليشيات وانتهاكاتها أربك حسابات أطراف بالداخل وأخرى بالخارج، بما في ذلك قيادة الجيش التي لا تزال مترددة حيال فكرة التعبئة العامة.
وأوضح قائلاً: "إن المقاومة الشعبية ستجبر الدعم السريع وحلفاءها على إعادة التفكير في استراتيجيتهم للوصول إلى السلطة عبر غزو بعض المجتمعات.. فكرة المقاومة الشعبية ضربت أصلب سرديات مشروع التمرد ألا وهي محاربة الإسلاميين وما يسمى الفلول، كما عكست أيضاً حجم الانتهاكات المنهجية الجسيمة التي اقترفتها قوات الدعم، ما استوجب انخراط المجتمعات المستهدفة لتسليح نفسها دون الرهان على الأجهزة الأمنية الرسمية".
يشير صالح في ختام حديثه مع كاتب المقالة إلى توقعاته بأن المقاومة الشعبية ستعيد زمام المبادرة لقطاع واسع من الشعب جرى تهميشه في خضم التدخلات الخارجية كما سيعرقل تمدد الميليشيات ويقطع أيضاً الطريق على التسوية التي يراد تمريرها على حين غرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.