في أيامنا تلك، التي يواجه فيها العالم تحديات لما اقترفته يداه، تواجه الديمقراطية العديد من التحديات التي تهدد استقرارها وفاعليتها في الشرق والغرب. إذ يبدو أن الدول قد تمادت في بطشها الفكري والمادي ظناً منها أنها أتت بنهاية التاريخ، فعلى الرغم من أن غالبية الكوكب اعتبرت أن الديمقراطية أحد أفضل الأنظمة السياسية المعروفة، إلا أنها تناست أن الديمقراطية ليست خالية من العيوب والتحديات، يتعامل العالم اليوم معها أنها نظام لا يمكن ضبطه أو إعادة صياغته، إذ يكفي أن يهبط المصطلح في أي دولة لتنال الخلاص الأبدي من كل الشرور، وذلك لا ينتقص من مفهوم الديمقراطية وما جاءت به من خير، لكنه محاولة لتقويمها عن طريق إبراز تحدياتها الرئيسية في وقتنا الحالي.
في الشرق تواجه الديمقراطية تفشي الفساد والاستبداد السياسي، ما يؤدي إلى نتائج تظهر بوضوح في أغلب دول الشرق، ألا وهي فقدان الثقة بين المواطنين والحكومة، وهذا بدورة يدفع لعرقلة أي تنمية مجتمعية. ورغم أن مستوى الفساد في العديد من الدول يتفاوت، إلا أنه يشكل تحدياً شديد التأثير على مؤسسات الدولة وطرق عملها مع المواطنين ورؤيتها لهم، ما يفقد التفاعل الجاد والإيجابي لتطوير كل من الدولة والمجتمع، فيصبح الاثنان كيانين منفصلين، وفي بعض الأحيان يصلان لدرجة يكونان فيها على درجة كبيرة من التناحر والتنافر.
أما عن أبرز التحديات التي أراها تواجه استقرار الأنظمة الديمقراطية في الوقت الحالي، فهي كيفية السيطرة على الثورة المعلوماتية في عصر التكنولوجيا ووسائل الإعلام الاجتماعية، فالتكنولوجيا وهذه السرعة الهائلة في تناول المعلومات وتداولها سلاح ذو حدين، فعلى الرغم من أن التكنولوجيا ووسائل الإعلام الاجتماعية أتاحت فرصاً جديدة للتواصل والمشاركة السياسية، إلا أنها أيضاً تسهّل نشر الأخبار الزائفة، وربما تعزز التوجهات القبلية والتحيزات السياسية المتطرفة، عن طريق نشر الأكاذيب والمعلومات غير الموثوقة بسرعة كبيرة، وأكبر دليل على ذلك، صعود اليمين المتطرف في أوروبا التي تزعم أنها واحة الديمقراطية والتحضر، فعن طريق خطابات وإحصائيات مضللة عن المهاجرين وغيرها صعد المتطرفون للسلطة وزاد التعصب والعنصرية ضد المهاجرين وبعض الأقليات الدينية، وهذا بشكل عام يؤثر سلباً على الحوار العام وقدرة المواطنين على اتخاذ قرارات مستنيرة ومعتمدة على الحقائق.
فتزايد التطرف والشعبوية بما يؤثر على الديمقراطية كممارسة ومفهوم، إذ يستغل السياسيون المتطرفون والشعبوين المخاوف والانزعاجات الاجتماعية والاقتصادية لتكوين قواعدهم الشعبية، فأصبح المجتمع تحت رحمة المتطرفين أصحاب الرؤى الضيقة الذين يسعون لتدمير التسامح والتعايش السلمي لتحقيق أهدافهم أو أفكارهم الشاذة، والتاريخ مليء بالنماذج على ذلك، فالنازية التي استغلت الديمقراطية ومن ثم أطاحت بها مازالت تأثيراتها إلى اليوم، ونرى ملامحها في بعض حكومات دول أوروبية تسعى لتقويض مبادئ العدالة وحقوق الأقليات.
وبالعودة للشرق نجد أن الديمقراطية، تواجه تحدي الاستبداد السياسي، فنرى في عدة نماذج كيف قد يحدث تراكم لسلطة في يد فئة صغيرة من النخب السياسية أو الاقتصادية، ما يقلل من التنوع والتمثيل العادل في العملية السياسية، ونتيجة لذلك الانحصار يتراكم الفساد وتنعدم الشفافية والمساءلة، وبالتالي تتبدد أي فرصة للدولة لبناء أي مؤسسات ذات فاعلية، فيصبح من الصعب أو شبه المستحيل بناء علاقة قوية بين الدولة والمجتمع، وتنعدم الثقة عند المواطنين في المشاركة في العملية السياسية.
في هذا السياق تتفاقم التحديات الاقتصادية والاجتماعية دون حلول، قد يؤدي الضغط الاقتصادي والاجتماعي، مثل البطالة العالية وتفاقم الفقر، إلى انتشار الغضب وعدم الرضا بين الناس، فيضرب استقرار الدولة وتماسكها، لذلك يمكن تشبيه الدول الاستبدادية بمن يطلق النار على قدميه.
عالمنا اليوم أصبح أكثر تشابكاً وتعقيداً، لذلك، أرى أن التحديات التي تواجهها الديمقراطية اليوم، ليست ذات تأثير محدود، بل يتخطى تأثيرها حدود الدول، إذ يؤدي تأثير تلك التحديات السلبية لضعف الحوكمة العالمية، إذ يمكن أن تؤثر التحديات العابرة للحدود، مثل التغير المناخي والهجرة والإرهاب، على استقرار الدول وعلاقاتها بالشكل الذي اعتاد عليه البشر، ويتطلب معالجة هذه التحديات تعاون دولي فعال وتنسيق للتصدي لها وإرساء العدالة الإنسانية.
علاوة على ذلك، يتطلب ذلك أن تسعى الدول لإرساء العدل والأسس الديمقراطية عن طريق تعزيز المشاركة المدنية وتعزيز الشفافية والمساءلة، إذ يجب أن يكون للمواطنين القدرة على المشاركة في صنع القرارات السياسية والمشاركة في العملية الديمقراطية، وأن تكون المؤسسات الحكومية مفتوحة وشفافة، قادرة على محاسبة المسؤولين.
في الختام، على الرغم من التحديات التي تواجه الديمقراطية في العصر الحديث، إلا أنها لا تزال أفضل نظام سياسي يمكن أن يحقق الحرية والعدالة والمشاركة، يجب علينا التعامل مع هذه التحديات بشكل جاد، وتبني إصلاحات وسياسات تعزز وتقوّم الديمقراطية بشكل صحيح وفعال، لكيلا تنزلق الدول للاستبداد والتطرف باسم الديمقراطية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.