استُشهد مدرب المنتخب الفلسطيني الأولمبي، هاني المصدر، وهذا الخبر ليس مهماً على الإطلاق، بعيداً عن الأوساط العربية ربما، وفي الأماكن الكُبرى في قارة أوروبا تحديداً.
حيث لا يهتم الاتحاد الدولي لكرة القدم بفكرة قتل هاني المصدر أو غيره من الرياضيين الفلسطينيين، لكنه سيضع لنا لافتات تُطالب بوقف الحرب الروسية على أوكرانيا، وسيُبادر سريعاً بالوقوف دقيقة حداداً على أرواح المستوطنين الإسرائيليين، بعد يوم السابع من أكتوبر الماضي.
رحل هاني المصدر عن عالمنا، حاله حال الكثير من بني شعبه، بعد أن استشهد مودعاً هذه الدنيا، التي تزخر بالحواجز الأمنية والمدرعات وجنود الاحتلال المغرورين، الذين يحاوطون مدينته ويحاصرون أهلها، ليستأصلوا أحلامهم فرداً فرداً.
استشهد هاني مع الكثير من أبناء شعبه الأبي، ذلك الشعب الذي قطع الاحتلال كل سبل التواصل بينه وبين الشعوب العربية، بل وبين أي شعب آخر، أمثال هاني المصدر كُثر، فمئات الأرواح في تلك البقعة الجغرافية الصغيرة تذهب كل يوم لبارئها دون أن يلتفت العالم.
لم يكن هاني المصدر هو الوحيد الذي رحل، لكن الرحيل ربما كان نجاة من ذلك الواقع الذي حكاه لاعب آخر، كان لديه الكثير من الطموحات التي حطَّمها الاحتلال؛ هو الفلسطيني محمود السرسك.
الذي تم اعتقاله في الرابعة عشرة من عمره، يوم الأربعاء، 22 يوليو/تموز 2009، عندما كان في طريقه إلى نادي "بلاطة الرياضي" بنابلس، ليوقع على عقد احترافه مع النادي. وللعبور من قطاع غزة إلى الضفة الغربية يفرض الاحتلال الحصول على تصريح أمني من قواته، ولقد حصل عليه سرسك بالفعل، لكن قوات الاحتلال لم تسمح له بالعبور النهائي، بسبب ضابط إسرائيلي مغرور وحكومة قررت أن تعتقله!
كان محمود سليل عائلة سرسك في مداعبة الكرة، متفوقاً على أقرانه ومن هم أكبر منه سناً. بات نجم الحيّ الأول وهو في الـ8 من عمره، وانضم لنادي "رفح الرياضي"، وراح يتحدث عنه وعن مهاراته كل من رآه يلعب يوماً، حتى ذاع صيته في القطاع بأكمله.
ولأن موهبته كانت أكبر من أن تحجبها معاناة اقتصادية أو سياسية، وصلته دعوة للانضمام لمنتخب فلسطين الوطني، قبل أن يتجاوز الـ14 ربيعاً. نحن إذاً أمام موهبة فذة أو خارقة ستطير فوق الجدار العازل، وربما تطوف العالم رافعةً العلم الفلسطيني.
لكن أتى الاحتلال ليحطم كل ذلك، حيث اعتُقل السرسك بشكل نهائي، وحُرم من الاحتراف، وبينما كان يأمل في أن يخرج من داره ليُلاحق حلمه استقر به الحال إلى زنزانة لا يُعامل فيها سوى على أنه مُجرد رقم، ويُنادى عليه فيها برقمه لا اسمه وهويته.
ألبسه الاحتلال ثوب الإرهاب كما جرت العادة، وقالوا إنهم اعتقلوه بحجة أنه كان يُحاربهم في ميدان المعركة، وظل سرسك يرى داخل المعتقلات الإسرائيلية ما جعله يمتنع عن الطعام، حيث رأى سرسك ووصف ما يحدث في معتقلات إسرائيل للشعب الفلسطيني، وهو ما لا يمكن أن يحدث للبشر في أية مجزرة من مجازر القرن الماضي.
وقال السرسك إنهم كانوا يُعاملون الأسير الفلسطيني كفرصة ثمينة لتجربة كافة الأدوية، والتجارب، وأي شيء غير آدمي بالنسبة لهم، وكان السرسك واحداً من هؤلاء الذين جُردوا من حق الحياة، وحالهم لم يكن أفضل حينها من الذين استُشهدوا ورحلوا عن الدنيا كلها.
لم يتحدث المجتمع الدولي، ولا الاتحادات الدولية لرياضة كرة القدم- التي يُمثلها السرسك- طوال هذه المدة، أبداً، وإنما بدأ الضغط يتزايد على الحكومة الإسرائيلية والفوضى الشعبية كلها، من خلال إضراب محمود سرسك عن الطعام، واقترابه من الشهادة، لكن هذه المرة داخل جدران السجون والمعتقلات الإسرائيلية، لا خارجها.
وبعد ضغط متزايد، أعلنت السلطات الإسرائيلية تنازلها عن أكاذيبها، وأفرجت عن محمود السرسك بشكل رسمي، اللاعب الذي كان من الممكن أن يحصد مسيرة جيدة بصفته كان في الرابعة عشرة من عمره، لكنه عاد من المعتقلات الإسرائيلية يُطارد الضباب حقاً.
في عام 2012 أعلن نادي برشلونة نيّته في تقديم محمود السرسك في أرض الكامب نو، وخلال مباراة الكلاسيكو بينه وبين ريال مدريد، فيما سمّاه النادي الكتالوني رسالة السلام الخاصة به، وفي الوقت نفسه كان برشلونة يُحضر للسرسك مفاجأة لن تسره، ولم يعلم بها إلا بعد فوات الآوان.
كانت المفاجأة التي عرف بها السرسك، من أطراف قريبة منه، وبعد أن وافق على طلب نادي برشلونة بالحضور، وأبدى سعادته بصفته من مُشجعي برشلونة العرب؛ أن برشلونة، في الليلة نفسها، سيستضيف مع السرسك الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، الذي كان يسعى الاحتلال من خلاله لإفراغ الأكاذيب الغربية في مشهد يحتضن فيه شاليط السرسك، أو العكس، من أجل إضفاء ميزة كاذبة على القضية الفلسطينية كلها.
رفض السرسك هذه الفكرة، وتخلّى عن المشهد البطولي الزائف الذي كان من الممكن الاستفادة منه، واتجه في المقابل إلى مناصرة أرضه وشعبه من أجل قضية لم تمُت يوماً، ليظل السرسك مُعرضاً، إلى يومنا هذا، لتجربة نفس الشعور الذي سيشعر به أي مواطن فلسطيني يُسجل كرقم في دفاتر الاحتلال الإسرائيلي، ويتم التعامل معه بهمجية شديدة.
لا يعبأ أحد عند سماع خبر استشهاد أي لاعب فلسطيني، أو مدرب، ولن يهتم أحد بتجسيد خبر رحيل المدرب هاني المصدر.
لكن لو كان محمود السرسك، أو المدرب الراحل هاني المصدر، من أي جنسية أوروبية، كانوا سيُصدّرون لنا المأساة، ككل الأفكار المشابهة التي يتحدثون عنها في سبيل إزعاجنا بشعاراتهم الدولية الفارغة، التي لا تنطبق إلا عليهم فحسب، وبذلك فإن السرسك وغيره ليسوا في الواجهة، وهاني المصدر ليس كذلك، والاتحاد الدولي لكرة القدم ليس مُهتماً بهم ولا بأخبارهم، سواء أكانوا على قيد الحياة مُكبلين بالاحتلال أو حتى في دفاتر الراحلين عن الدنيا.
لأن الاتحاد الدولي، حاله حال كل المنظمات الدولية، التي وإن استنكرت مثل هذه الأخبار؛ فإنها بالضرورة لا تُلزم نفسها بإدانة من فعل ذلك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.