انبرت ألمانيا أواخر الأسبوع الماضي، للدفاع عن إسرائيل في وجه العدالة الدولية، ومنحتها ضوءاً قضائياً أخضر لتبرّئ نفسها من كلّ التهم الجنائية وجرائم الحرب التي تلاحقها في غزة، وظلّلتها بظلالِ دعمها السياسي والدبلوماسي، بينما دماء الأطفال لم تجفّ بعد.
هو اليوم الأول للحرب بعد المئة، وألمانيا تقرر أن تتدخل، أو أن "تتطفل" كطرفٍ ثالثٍ داعم لإسرائيل، في دعوى قضائية رفعتها دولة جنوب أفريقيا ضدّ الأخيرة، تتهمها فيها أمام محكمة العدل بارتكاب الإبادة الجماعية والقتل الممنهج للفلسطينيين.
لقد أظهرت ألمانيا عبر هذا التطفل سلوكاً مستهجناً وغير مألوفٍ في علاقات الدول، خصوصاً في أزمنة الحروب المستعرة، إذ يجدر بها أن تلعب دوراً حيادياً، لا أن تكون منحازة إلى بندقيةٍ معيّنة، فكيف بالبندقية الإسرائيلية!
بيد أن هذا التدخل له تفسيره بالطبع، ولألمانيا تاريخها وأسبابها.
الهولوكوست في ألمانيا النازية
ليس صدفةً أنّ تاريخ اضطهاد اليهود يعود إلى أوروبا في الصورة الأعمّ، إذ إنّ المجموعات اليهودية لم تولد في "فلسطين" التاريخية، إنما انتقلت إليها بعد الحرب العالمية الثانية على شكل جماعات مضطهدة وهاربة من بطش الحزب النازي الألماني آنذاك بقيادة هتلر، والذي أحكم قبضته على اليهود وأودعهم المحارق والأفران، ونكّل بهم أيّما تنكيل في ما عرف لاحقاً بالهولوكوست، أي المحرقة.
وعقب سقوط النظام الألمانيّ وانتصار الحلفاء على هتلر بعد انتحار الأخير، حاولت ألمانيا أن تعكس وجهاً آخر لعلاقتها مع اليهود بحكم ضلوعها في نفيهم وإبادتهم، وفق الروايات التاريخية.
لذا لعبت ألمانيا دوراً كبيراً في دعم وجود إسرائيل بعد أعوام قليلة من قيامها على أنقاض "فلسطين المحتلة"، ودعمتها مادياً بطرق سرية بادئ الأمر، ثمّ علنية بعد اتفاقية لوكسومبرغ.
تعويضات ألمانية لليهود عن المحرقة
نصّت اتفاقية "لوكسومبرغ" التي وقّعت بين حكومة إسرائيل وحكومة ألمانيا عام 1952 على دفع الأخيرة لليهود المتضررين من الإبادة الجماعية تعويضات هائلة أينما كانوا وخصوصاً الذين انتقلوا إلى إسرائيل، وهو الأمر الذي دعم الاستيطان الجديد في الأراضي الفلسطينية المحتلة ورأب الصدع في خزينة كيان الاحتلال، والذي كان لا يزال ضعيفاً وقيد النشوء.
وقد كانت إسرائيل في تلك المرحلة غاطسة في وحول حروبها مع العرب، وكانت تعتمد في تمويل الحروب على نهب ثروات الفلسطينيين، وعلى الدعم الأمريكي، وعلى التعويضات الألمانية!
وفي إطار هذه الاتفاقية دفعت جمهورية ألمانيا الاتحادية لإسرائيل ما يقدر بـ 3 مليارات مارك ألماني خلال 12 عاماً، مع إقرارها بمسؤوليتها عن إبادة الشعب اليهودي، وقد ظلت أسيرة هذا التاريخ حتى اليوم، مادياً ومعنوياً.
دعم ألماني منقطع النظير لإسرائيل
بعد طوفان الأقصى، حطّت طائرة المستشار الألماني أولاف شولتز في تل أبيب، ليصبح ثاني الزعماء الأوروبيين وصولاً، وكانت رسالته أن أمن إسرائيل "مصلحة وطنية عليا" لبرلين، مكرراً كلام المستشارة أنجيلا ميركل 2008.
وهو بهذا التوقيت السريع للزيارة سبق حتى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جو بايدن ورؤساء المعسكر الغربي الداعم لإسرائيل، وهذا كلّه يرجع إلى شعور ألمانيا بالابتزاز المعنوي من الإسرائيليين، الذين لا ينسون تاريخهم بالمناسبة ودائماً ما يشيرون إليه، وكذا فعل المندوب الإسرائيلي في الأمم المتحدة.
هذا الدعم المبالغ فيه لإسرائيل من ألمانيا الرسمية يرجع أيضاً إلى شعور ألمانيٍ شعبي بالمسؤولية تجاه اليهود دوناً عن غيرهم نظراً لأواصر القربى والدم والتاريخ، والحكومة الألمانية الرسمية تخضع بلا شكّ للضغط شعبي يدفعها إلى دعم إسرائيل وحروبها التي لا تنتهي ضد العرب عامةً، والفلسطينيين على وجه التحديد.
من يقنع ألمانيا بالهولوكوست الجديد؟
قيل: اِكذب مرة أو مرتين يصدّقك الناس، لكنّ الحقيقة تظهر في كلّ مرة.. فكيف لم تتبين الحقيقة بعد لألمانيا بشأن إسرائيل؟ لقد ملّت الكاميرات والأقلام من إقناع الرأي العام الرسمي في ألمانيا والحكومات الغربية بالمحرقة الفلسطينية على يد الناجين من المحرقة أنفسهم!
إن إسرائيل على طول تاريخ حروبها وعملياتها العسكرية، منذ احتلال فلسطين عام 1948 إلى حرب العدوان الثلاثي على مصر 1956، ثمّ في حرب الأيام الستة 1967 إلى حرب أكتوبر 1973، فاجتياح لبنان 1982 ثمّ الانتفاضتين في فلسطين من عام 1987 إلى 2000، ثمّ حرب تموز 2006 على لبنان، ثمّ حروب لا تحصى على غزة من 2008 إلى اليوم، لم تترك مجالاً للشكّ في أنها ترتكب إبادة جماعية بحقّ العرب والفلسطينيين!
على ألمانيا أن تخرج قليلاً من عباءة الابتزاز الإسرائيلي، وجدير بها أن تضع إسرائيل بأحزابها المتطرفة في ثوب الحزب الألماني النازي، وأن تنظر إلى الفلسطينيين على أنهم "يهود" الماضي.. ربما تستفيق!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.