أمام أهمّ مَعْلَمٍ قضائيٍّ بالعالم، وفي ساحة محكمة العدل الدولية في لاهاي بهولندا، كرّمت الجالية الفلسطينية في هولندا رئيس الفريق القضائي لدولة جنوب أفريقيا وزير العدل رونالد لامولا، متفوقةً بذلك على الدبلوماسية الفلسطينية، بعدما قدّمت له درع الشكر والعرفان، لدولته عن فعلها الإنساني الذي نابت به عن الكوكب بأكمله في الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني المذبوح في غزة.
واللافت للانتباه أنّ التكريم حصل من قِبلِ شابٍ فلسطينيّ يافع في العقد الثالث من العمر، أحد أعضاء الجالية الفلسطينية، حيث تقدم باتجاه رئيس الفريق القضائي، وقدّم له درع التكريم وخاطبه بكل ثقةٍ بالنفس، وكأنه سفير، ليثبت للمحكمة أن جيل الشباب الفلسطيني أهلٌ لتحمّل المسؤولية، وأهلٌ للقيادة، وليس أهلاً للتهميش الذي طالما عانينا منه على مدار عقود في مخيمات الشتات.
ذلك التكريم كان جزءاً من تظاهرة حاشدة تناوبت على مدار يومَي المحكمة، للوقوف تحت المطر و بدرجاتٍ حرارة تحت الصفر، دون أن يمنعها ذلك في الوقوف إلى جانب الأهل والأشقاء في الداخل الفلسطيني..
إنّ الحراك المنظم والريادي للفلسطينيين الذين تربى جُلّهم في الشتات، هو الذي دفع بالقارة الأوروبية إلى أن تتوشح بالمشاهد الحاليّة التي يعاينُها العالم أجمع، فتظهر كما لو أنك لم تشاهدها من قبل، تزيّنها الأعلام الفلسطينية ولافتات المطالبة بوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، فقد رصدنا في المركز الأوروبي الفلسطيني للإعلام، أكثر من 6 آلاف مظاهرة مؤيدة لفلسطين، في 400 مدينة أوروبية، موزّعة على 17 بلداً أوروبياً خلال أكثر من 90 يوماً، بمشاركة الملايين الذين يجمعهم عامل التضامن مع شعب غزة الذي يتعرض لحملة إبادة جماعية على يد الاحتلال الإسرائيلي، حيث وجد قادة الاحتلال أنفسهم محاصرين قضائياً بفضل كفاءة الأفارقة الذين أدّبوهم حينما جرّوهم ولأول مرة في التاريخ إلى القضاء، يواجهون تُهماً مُثبتة لا حاجةَ فيها للدليل والبرهان، وسواء أنصفتنا المحكمة أم لم تفعل، فإنّ مشهد المحاكمة برمّتها وتفاصيلها هو انتصارٌ كبير.
تلك التظاهرات الحاشدة التي تغصّ بها كبرى العواصم والمدن الأوروبية تميزت بعدة عوامل: أوّلها هو عامل الاستمرارية، وكأن اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني أصبح متجدداً في كل يوم، كما تميزت أيضاً بعامل التعدد، وأقصد هنا تعدد أعراق المشاركين وخلفياتهم وثقافاتهم، فبالإضافة إلى الحضور الفلسطيني وهو الأبرز، هناك حضور عربي وإسلامي من طرف جالياتنا المساندة التي كانت ظهيراً لنا، إلى جانب الحضور الأوروبي صاحب الأرض والجمهور الذي أثرى المظاهرات، وضمّ صوته إلى صوتنا بكل اللغات المحلية، ففلسطين هي ذاتها Palestina بالهولندية، و Palestine بالإنكليزية، وPalästina بالألمانية وPalestine بالفرنسية، فأصبحت القضية الفلسطينية طوفاناً أوروبياً يُذكّرُ بمأساةِ غزة على الدوام وإجرام الاحتلال الذي حاول التشويش على حراكنا عبر أذرعه، لكنه باء بالفشل كعادته كل مرة، فكان مصيره في الأزقة الضيقة، في حين سُخّرت لنا كبرى الساحات.
كما تميز حراكُنا في أوروبا بعامل الانضباط الحضاري والالتزام بالقانون، لأن ذلك يجب أن يليق بتضحيات شعبنا العظيم، فذلك الجيل الذي نشأ في المخيمات، والذي لم يشارك يوماً في انتخابات بلده الأم، أصبح اليوم يقود الآلاف في أوروبا في مظاهراتٍ مشهودة، كما أنّ الذين همّشهم الموقف الرسمي الفلسطيني ذات فترة، أصبحوا اليوم رؤساء جاليات، وأندية، وأعضاء برلمان، يحملون العلم الفلسطيني في يد، والجواز الأحمر في اليد الأخرى، بعدما كانوا يتوسلون للحصول على "جواز السلطة الفلسطينية"، لأنهم في نظر حُكّامِهم صِفرٌ على شمال العدد، في الوقت الذي أثبتوا فيه قدرتهم على التعبير عن انتمائهم لوطنهم الأم الذي لن يتخلوا عنه يوماً.
وقد قال لي أحد الفلسطينيين الذين يقيمون في أوروبا منذ عقود بعدما شاب شعرُه وابيضت لحيته: لأول مرة أرى أوروبا بهذا الزخم الكبير، وبهذا الالتفاف الشعبي العارم حول القضية الفلسطينية، ولأول مرة أرى شباباً أوروبيين يخرجون بهذه الهمة للتعبير عن قضية ما، وهذا لم يكن ليحدث لولا الحراك المنظم للشباب الفلسطيني القادم إلى أوروبا.
ولو لم يلمس الأوروبي في الفلسطينيين ما يؤهلهم للحق، لَمَا شارك معهم في مظاهرة واحدة تحت الثلج وفي البرد، و لَمَا هتف لفلسطين في الساحات التي لها رمزية كبيرة في أوروبا، وهذا ما يدفعني لأختم مقالي بالقول: آنَ لهذا الجيل الشاب الذي أثبتَ ريادته وانضباطه وحضارته، أن يكون له دورٌ في صناعة القرار الوطني الفلسطيني، وأن يحيا في صدارة الموقف الرسمي، وأن تكون له الكلمة الفصل في أي قرار فلسطيني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.