ما زلت مستغرباً قيام إسرائيل بالأخذ والرد في مسألة الهدنة الثانية وشروطها وهي لا تقيم وزناً لأحد، فالأمم المتحدة مغيبة وكل العالم في طرف وإسرائيل والمستعمرون القدامى في طرف آخر، تفعل ما تريد على مرأى الجميع ولا أحد يتدخل، تغتال خارج حدودها، ثم يقال إنها تحاول التوصل لهدنة مع فصائل المقاومة وإنها تفاوض وغير ذلك من الطروحات التي تناور بها عقولنا وتغيب أدمغتنا، لنتوه عن الحقيقة.
الحقيقة أن هذا الأمر لا يستقيم مع ما عهدناه عن دولة الاحتلال، ذلك الكيان المستعمر الذي يذخر تاريخه بالخيانات ونقض العهود والمواثيق وخرقه لكل القوانين الدولية، ولذلك لم يكن حل معه سوى المقاومة دائماً وأبداً، فالمستعمر لا يعرف لغة التفاوض، وهو يعرف قبلنا أن الحقوق تنتزع ولا تعطى.
إن كل المفاوضات ومحادثات السلام الخائبة للاحتلال الإسرائيلي معنا لم تأتِ إلا لتثبيت وجوده وإظهار هيبته وتثبيط مقاومتنا لا أكثر، فدائماً يفاصل من أجل نفي الحق وتثبيت نقيضه؛ لكي يمضي الزمن وتسحق القضية وتنتزع العدالة عن قدسيتها، فيضل العالم للأبد وراء ما يراه هو فقط الحقيقة.
يعرف الاحتلال الإسرائيلي عالم اليوم جيداً، يعلم أنه لا صوت يعلو فوق صوت القوة والبطش، لذلك يستمر في الكذب والتدليس والتلاعب بالحقيقة بعنف، محاولاً ربح جل المواقف مهما كان الطرف الآخر جاداً ومتأهباً لنيل بعض الحقوق والمكاسب.
لأننا ندرك تماماً أن تنفيذ أي اتفاق يعتمد النتائج التي على الأرض، ولأن المعركة اليوم لم تنتهِ بعد، وبما أن المقاومة اليوم تقف كندٍّ وتتكلم من موقف القوي، يجب أن لا نخضع لاتفاقات لا تنصرنا ولا توقف نزيف دمائنا، فكما نعرف من التاريخ أن الاتفاقات الخانعة تعني استباحة دمائنا لكن على مهل.
إن الاحتلال اليوم لا يريد وقف الحرب، ويرفع شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المذبحة"، فلا يوجد متفاوض على هدنة يُقْدِم على اغتيال قيادات عدوه؟ يسعى الاحتلال اليوم من خلال الهدن لتوسيع نطاق حربه، فبعد فشله ميدنياً يحاول أن يجني أي مكاسب عن طريق بعض الاتفاقات؛ ليعيد شحن الداخل ويستكمل المذبحة، وهنا نرى التاريخ يتكرر وتتضح نواياه الخبيثة للجميع.
وما يسهّل عليه الاستمرار في ذلك النهج، هو علمه أن الدول المحيطة به لا ترغب في إشعال الحرب، فنرى وزراء الاحتلال يتحدثون بالشكر تارة لزعماء العرب والدول العربية، ويطلبون بعض التسهيلات منهم لتمكينهم من أهدافهم في فلسطين تارة، كأنهم أصبحوا عملاء لهم، وتارة أخرى يهددونهم بتقديم اقتراحات مجنونة غير قابلة للتنفيذ لحل القضية الفلسطينية لحكومتهم تسوقها الصحافة.
إن التحركات الهستيرية للاحتلال الإسرائيلي على جميع المستويات تنم عن وضع عقلي مأزوم لقادة الاحتلال، وهذا يتضح من طريقة إدارتهم للحرب، فبينما يعملون على هدنة مؤقتة يسعون لها عبر الوسطاء (قطر ومصر)، يواصلون حرباً غير نظيفة، يعلمون أن نتائجها لا تذهب إلى الهدنة، وهذا الأمر اتضح بشكل أكبر بعد اغتيال صالح العاروري نائب رئيس حركة حماس وقائدها في الضفة الغربية، ورفاقه في لبنان مؤخراً.
تعرف المقاومة الاحتلال وتاريخه المليء بالتلاعب، فعلقت فصائل المقاومة بحث إيجاد هدنة ثانية، وأبلغ الوسطاء ذلك لإسرائيل، لذلك لا تقبل المقاومة التفاوض على هدنه تستمر بعدها إراقة دماء شعبها، إذ لا ترضى إلا بوقف كامل للعدوان الاحتلال.
فذلك الاحتلال لا يحترم الهدن ولا السلام الذي يأتي من الضعيف، لا يوقفه سوى القوة والعناد للحق، فكم تكرر المشهد الذي يعتقل فيه الاحتلال الأسرى من جديد بعد كل اتفاق لتحريرهم، وكما يحدث الآن مع المحررين السابقين، دون أن تخشى من العالم ومؤسساته الدولية، بعد أن صارت الاستثناء الدنيء الذي يحق له استباحة كل القوانين دون محاسبة.
ورغم أن شعوبنا وأنظمتنا يدركون حقيقة هذا الاحتلال الشاذ وسط أرضنا، فإن بعضهم تماهوا معه لدرجة أنهم تعودا عليها، وأصبحت فظائعه دارجة لديهم، فأصبحت عقولهم وأفئدتهم متبلدة للقضية الفلسطينية، فلم يعد أي شعور ولا عقل يحركهم حتى عند رؤية وسماع صراخ وأشلاء أطفال جلدتهم، ولا يهرعون لاستغاثة امرأة، أصبحت هناك حالة من الخنوع مع كل صرخة ومع كل استغاثة لدرجة أن بعضهم يلقي اللوم على المقاومة، كأن الدماء تصلبت في عروقهم بينما يجري الماء محلها.
ورغم ما حل ببعضنا وأنظمتنا، ما زال هناك بريق أمل، فهذه الأرض ذات الإرث الإسلامي القوي، حيث ينبت منها اليوم جيل ظننا أنه لا يأبه لفلسطين، لكن نراه اليوم جيلاً يفضل الموت على المهانة، لذلك دعونا لا نورثه اتفاقات الخنوع والاستسلام، فلا شروط فوق الحق، ولنعلّمهم أنه لا تصالح مع الاحتلال ولو قيل ما قيل من كلمات السلام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.