يمر التاريخ بدورات مفصلية، ما بعدها ليس كما قبلها، بل لا مبالغة في القول إن هذه الدورات الرئيسية هي أدعى لتقسيم التاريخ في ضوئها لا الركون الكسول إلى الكيانات السياسية التي يتمظهر من خلالها، ولا حتى التقسيم الحالي الذي يريد بمكر مريب جعل الإسلام مرحلة تاريخية مرّت وانتهت.
تمتاز هذه الدورات بطول مداها، وأبعادها الاستراتيجية، وارتباطها بالتأثيرات الضخمة التي تليها، فهي أعمق وأبعد من انهيار كيان ما أو موت شخص، بل هي ترتبط بشكل أساس بانتهاء التجارب وحلول المشروع البديل، مثلما أنها بطيئة التكوين والحدوث، فهي عملية انسلاخ من واقع مرحلي ما وإحلال آخر مغاير عنه أو متجدد عنه.
كما أن هذه الدورات التاريخية لا تكون هادئة بالضرورة أو على الدوام، فغالبها هو بمثابة إعصار تمر به الحياة، يقتلع جذورها الماضيات ويؤسس لعملية إنبات جديدة، وفي غالب الأحيان شاملة لكافة جوانب الحياة، لتغدو حضارية التكوين وشاملة للمنظومات الفكرية والسياسية والمجتمعية وما يتعلق بها أجمع.
ولعل السؤال الأكثر إثارة يكمن في مدى الخروج بسلام من هذه الأعاصير وكيفيته؟
تمر هذه الدورات التاريخية بالأمم والمجتمعات بتسلل ناعم وصاخب في آنٍ واحد وغريب ولا يكاد يستشعره الكثير، فلكل منها بدايات وإرهاصات ونهايات، وغالب الناس من يدرك التغيير بعد وقوعه ويجد نفسه في لجّة العواصف التي لا يكاد يصمد أمامها، وذلك حال من يغفل ألف علامة وعلامة مرّت به وعليه دون أن يدرك أنها ناقوس التنبيه اللازم للاستدراك قبل فوات الأوان!
وتلقي الإرهاصات المرتبطة بدورات التاريخ الحاسمة بظلالها على الواقع الراهن، فتتحول الدنيا المفعمة بالحياة إلى لوحة شبه ميتة، أو كما وصفها اللفظ القرآني الكريم (خاوية على عروشها)، ففي حين يتلقى البعض هذا المشهد باندهاش واستغراب، يجعلنا التأمل والنظر في الجو العام الذي يصوره ندرك أن هذا الخواء المادي يتكرر مع وجود الأحياء وليس مع الأموات فحسب! وذلك يمكن تلمسه بجلاء ساطع إذا وهنت سقف الالتزام، وتحطمت جدران القيم، وزادت وحشة الناس وهم كثر، وأحس الإنسان بأنه يموت كل يوم وهو حيّ.
تمّر بنا عشرات الأحداث والوقائع، وكثيرة منها مما نتوهم أنه إيذان بانتهاء دورة التاريخ الحالية وابتداء أخرى، ولكن يظهر لاحقاً أن غالبها كانت لا تعدو أن تكون مجرد إشارة لما هو قادم، فليس نثيث مطر الذي يمّر بنا مثل طوفان حاسم يعيد تحريك التاريخ بعد طول جمود، وليصوغه بلغة مختلفة ويكتب أسفاره بخطٍ جديد بديع!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.