رأيت رام الله.. تغريبة البرغوثي ومذكرات الشتات

عربي بوست
تم النشر: 2024/01/12 الساعة 13:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/01/12 الساعة 13:41 بتوقيت غرينتش
مريد البرغوثي وكتابه" رأيت رام الله"/ الشبكات الاجتماعية

"الغربة كالموت، المرء يشعر أن الموت هو الشيء الذي يحدث للآخرين، منذ ذلك الصيف أصبحت ذلك الغريب الذي كنت أظنه دوماً سواي" مريد البرغوثي.  

مريد البرغوثي، الشاعر الفلسطيني الذي قرر أن يكتب سيرة الشتات، جاءت تحفته الأدبية في تسعة فصول، قطع نثرية بديعة، أو إذا جاز التعبير قصيدة طويلة من الشعر الحر تتحدث عن الإنسان عموماً، ويتخصص أكبر عن العربي ثم بمزيد من الدقة عن الفلسطيني المطرود من وطنه والغريب أبداً حياً وميتاً.

مذكرات الشتات:

ظل هذا العنوان الفرعي في مخيلتي أثناء قراءة الفصول، حيث كتب البرغوثي مذكرات عاشها في بضعة أيام، قضاها بين رام الله ودير غسانة، ولكنها حَوَت في طياتها ثلاثين عاماً من الشتات.

"لاجئين إلى ولادتنا من الموت الغريب، ولاجئين إلى منازلنا التي كانت منازلنا، وجئنا في مباهجنا خدوش لا يراها الدمع إلا وهو يوشك أن يهيلا"

كل فصل في هذا الكتاب يحمل عنواناً، وكل منهم يعبّر عن حالة فريدة ابتداءً من الجسر الذي يعبره كل من يخرج أو يدخل من وإلى فلسطين. عبره "البرغوثي" مرة إلى الخارج، ثم إلى الداخل بعد مرور ثلاثين عاماً، والذي يقول عنه:

"أخيراً ها أنا أمشي بحقيبتي الصغيرة على الجسر الذي لا يزيد طوله على بضعة أمتار من الخشب، وثلاثين عاماً من الغربة".

في تلك الأعوام الطويلة اختبر الغربة ومرارة الفقد المتكرر الذي لا ينقطع، تشتت الأسرة الواحدة بين البلدان والقارات، ينفرط عِقد العائلة وتبقى حبَّاته تتدحرج حتى تستقر- بغير إرادة منها – في مكان ما حيث تتشابك مع حبات أخرى في عقد آخر لتعيش فيه غريبة دوماً، عنصر مندس وطرف ثالث على الرغم من أنه يظل المتهم الأول في أي حدث أو جرم وفي أحيانٍ أخرى يكون غير مرئي من الأساس.

دير غسانة أو شجرة التين:

دير غسانة هي القرية التي عاش فيها البرغوثي طفولته، والتي تحمل حتماً ذكرياته الأولى وتجاربه عن الأشياء ونظرته الأولى إلى العالم.

كل بيت في تلك القرية كان له اسم، أولئك الناس لهم هوية مغروسة في الأرض، حتى البيوت لها أسماء، كان اسم بيت عائلة البرغوثي: "دار رعد" ، كان يشتاق للدار وساكنيها في غرباته الطويلة الممتدة، ولكن جميع من بالدار رحل، إما بالموت أو التهجير.

كانت مخيلته تحتفظ بصورة الدار كما عاش فيها، الصورة العاطفية التي تبقى في المخيلة للأشياء المتروكة وراء الإنسان، الأشياء التي يُنتزع المرء منها عنوة ولا تُنتَزع من داخله أبداً، ذلك أن القوة الغاشمة والقبضة الظالمة تقف حدودها عند الجسد، تكبل الأيدي والأقدام، وربما تصلب أو تجلد، ولكن هناك مُضغة في الصدر تُبقي كل شيء كما هو، حتى في أحلك الظروف، يركن إليها المقهور ليستريح برهة من قهره ويلفظ أنفاسه في غفلة من سجَّانه.

كانت شجرة التين في فناء دار رعد باقية في مخيلة الكاتب، مذاقها ما زال يجري على لسانه، وهو الذي كان يشعر بأنه خائن إذا اشترى التين في بلاد الغربة بدافع الحنين، فكيف يشتريه وله شجرة في بيته تكفي لإطعام قرية بأكملها، دانية قطوف شجرة التين من قلبه ووجدانه، ولكنها بعيدة عن يديه، يقطف منها في أحلامه عن الوطن، ويشتري فاكهة لها نفس الاسم والشكل من أسواق الغربة، أما ثمار الأولى فتقطر شهداً خالصاً يشبع القلب والبطن، وأما الثانية فلها مرارة الغربة لا تُسمن ولا تُغني من جوع.

في زيارته لدير غسانة لم يجد شجرة التين في انتظاره، اختفت من الوجود كما اختفى سكان البيت، لم يبقَ منهم سوى زوجة عمه أم طلال، التي قالت له إنها قطعت الشجرة لأنها لم تعد تجد من يأكل ثمارها!

"أماكننا المشتهاة ليست إلا أوقاتاً، أجل إنها أوقات، ولكن مهلاً، في الصراع تكون المسألة هي المكان.. نعم. المكان كل القصة هي المكان يمنعونك من امتلاكه فيأخذون من عمرك ما يأخذون.عندما سألني صحفي عن معنى الحنين بالنسبة لي، قلت له شيئاً قريباً من هذا، إنه كسر الإرادة، بالتالي لا علاقة له برخاوة الذكرى أو الاستحضار".

الإقامة في الوقت أو معنى ارتجال الحياة:

الغريب لا يقيم في مكان؛ لأنه يخاف أن يتعلق، الحياة بالنسبة له محطات أو أزمنة قصيرة مصفوفة جنباً إلى جنب قطع أحجية عكف على حلها طفل!

"الغربة لا تكون دائماً واحدة، وإنما هي دائماً غربات، غربات تجتمع على صاحبها وتغلق عليه الدائرة، يركض والدائرة تطوقه، عند الوقوع فيها يغترب المرء عن ذكرياته فيحاول التشبث بها، فيتعالى على الراهن والعابر، إنه يتعالى دون أن ينتبه إلى هشاشته الأكيدة، فيبدو أمام الناس هشاً ومتعالياً، أقصد في الوقت نفسه".                                           

يقول "البرغوثي" إنه حاول فور وصوله إلى وطنه أن يرتق زمنين بخيط واحد حتى يحصل في النهاية على عمره وزمنه الخاص، ولكن تبين أن هذا مستحيل؛ فحاله قبل ثلاثين عاماً ليس كحاله بعدها، وكذلك حال البيت وقاطنيه.

الإقامة في المنافي تعني مساكن كثيرة مستأجرة والكثير من الليالي في الفنادق، تعني عدم التعلق الإجباري وضرورة التخلص من مقتنيات الغربة، مهما كانت أثيرة وعزيزة، وكأنه عقاب للمغترب إذا تعلق.

أذكر هنا حديث الكاتب "أمين معلوف" في كتابه "غرق الحضارات" عن تجربة الاغتراب الخاصة به قائلاً:

"لقد شيّد أهلي بعض المنازل التي توزعت في منطقة الأناضول، جبل لبنان، والمدن الساحلية ووادي النيل، وسيفارقونها جميعاً، المنزل تلو الآخر، واحتفظت عن ذلك بحنين بالضرورة وبشيء من القناعة الرزينة أمام تفاهة الأشياء، ألا نتعلق بأي شيء قد نندم عليه ساعة الرحيل.

وعبثاً فعلنا، فإننا نتعلق، لا مفر، ثم نرحل، لا مفر، حتى أننا لا نصفق الباب وراءنا، فلا أبواب بقيت ولا جدران".

أُسْرة واحدة ومنافٍ كثيرة:

"يكفي أن يواجه المرء تجربة الاقتلاع الأولى حتى يصبح مُقتلعاً من هنا إلى الأبدية"..

 يحكي الكاتب في فصل بعنوان "عمو بابا" عن تجربة أخذه من بيته عنوة في حملة الاعتقالات التي طالت كل من كان لهم نشاط سياسي إبان توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عام 1978، حيث نُفي من مصر وحُرم من أسرته.

كان ابنه الوحيد ما زال ابن خمسة أشهر، قماطه ما زال مبللاً على حبل الغسيل!

نُفي الوالد إلى المجر، وحينما رأى الطفل أباه لأول مرة في المنفى، وبعد مرور ثمانية أشهر على لقائهما الأخير، كان الولد يناديه "عمو"، وكلما حاول الأب التصحيح للطفل قائلاً بطريقة فيها ترغيب "بابا" قال الولد بعفوية "عمو بابا".

بعد أعوام طويلة من هذا الحدث سيقف مريد البرغوثي في رام الله قائلاً: "تميم سيعيش هنا ذات يوم" ، ذلك اليقين الراسخ الذي يميز صاحب الأرض، لا يستند على معطيات الواقع، وإنما على قوة التاريخ وهيمنة الهُوية، قالها البرغوثي الأب وهو بصدد السعي للحصول على تصريح "لمّ الشمل"، الذي يسمح للولد بزيارة أرض أبيه وأجداده، والذي لابد أن يكون مذيّلاً بتوقيع المستعمر حتى يصلح كتأشيرة لعبور الجسر!

"من السهل طمس الحقيقة بحيلةٍ لغويةٍ بسيطة: ابدأ حكايتك من "ثانياً"!

نعم هذا ما يفعله المعتدي بكل بساطة، يهمل الحديث عما جرى "أولاً"، ويكفي أن تبدأ حكايتك من "ثانياً" حتى ينقلب العالم.

ابدأ حكايتك من "ثانياً" حتى تصبح سهام الجنود الحمر هي المجرمة الأصلية، وبنادق البيض هي الضحية الكاملة!

يكفي أن تبدأ حكايتك من "ثانياً" حتى يصبح غضب السود على الرجل الأبيض هو الفعل الوحشي!

يكفي أن تبدأ حكايتك من "ثانياً" حتى يصبح غاندي هو المسؤول عن مآسي البريطانيين!

يكفي أن تبدأ حكايتك بـ"ثانياً" حتى يصبح الفيتنامي المحروق هو الذي أساء إلى إنسانية النابالم!

وتصبح أغاني "فكتور هارا" هي العار وليس رصاص "بينوشيت"، الذي حصد الآلاف في استاد سنتياغو!

يكفي أن تبدأ حكايتك من "ثانياً" حتى تصبح ستي أم عطا هي المجرمة أريئيل شارون هو ضحيتها!".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سماح صلاح
كاتبة ومدونة مصرية
كاتبة ومدونة مصرية
تحميل المزيد