بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وعلى مدار أكثر من 90 يوماً، دخلت أوروبا على مستوى النخب السياسية في طور غير مسبوق لتثبيت ركائز صورتها تحت ما يسمى "ازدواجية المعايير"، أو ما تطلق عليه الشوارع المتظاهرة "حالة نفاق". فمعالم تلك الصورة ليست طارئة في العلاقة بقضية فلسطين؛ بل إن وصف "النفاق" ذهب إليه أول من أمس وزير خارجية النرويج الأسبق، والدبلوماسي العريق، يان إيغلاند، في مقابلة صحفية مع صحيفة دنماركية السبت الماضي.
فعلى مدار عقود عاملت السياسات الأوروبية الغربية دولة الاحتلال الإسرائيلي بصيغة "المقدس"، التي لا يمكن مسها ولو لفظياً، بحجة منع "معاداة السامية"، مع أنها في المقابل شرعنت الإسلاموفوبيا.
وليس ثمة شك أن الإنسان العربي، بعكس طبقة السياسيين ونخب السعي لكسب رضا وإعجاب وقبول الغرب، في سياق حالة ارتباط دوني قلَّ نظيرها بين أمم أخرى، كان أجرأ على الحديث مبكراً عن مسؤولية الغرب في دعم جرائم الاحتلال، الذي تأسس أصلاً كجزء من مشروع إمبريالي واستعماري غربي.
سقطة أوروبا المستمرة
قبل "7 أكتوبر"، وحرب الإبادة وجرائم الحرب في غزة والضفة الغربية، راحت أوروبا في تبعيتها لواشنطن تتعايش مع فكرة أن "التطبيع" بين بعض الأنظمة والاحتلال الإسرائيلي بديل عن "العملية السلمية"، (رغم ركاكة وسخافة المصطلح المترجم من الإنجليزية وتبنته صحافة وسياسات العالم العربي)؛ بل إن علاقة القارة العجوز الذيلية بواشنطن جعلتها تقرأ بداية التاريخ من صبيحة السبت السابع من أكتوبر، وليس لتراكمات ثلاثة أرباع القرن من القهر والاحتلال ونشوء دولة الأبرتهايد، التي تأسست على أساطير وخرافات "تحليل" المذابح المرتكبة على أرض فلسطين، وصولاً إلى ذروة الإبادة وجرائم ضد الإنسانية في التهجير عام النكبة 1948.
الاحتلال الإسرائيلي، الذي خبر الفلسطيني آثار انحطاطه وإجرامه بلحمه ودمه لعقود من تغييبه عن قصد، انفجر أخيراً فُجراً ودفعة واحدة، لتؤسس اكتشافاته حالات صدمة لشوارع غربية، بما فيها الشارع في أمريكا الشمالية.
ومع ذلك ظلت النخب الغربية، باستثناءات، تعيش مراحل الجبن أحياناً وتصهينها في أخرى، كحالة واضحة عند وزير خارجية أمريكا، أنتوني بلينكن، الذي جاء مدفوعاً من جو بايدن إلى فلسطين "كيهودي"، والمستشار الألماني أولاف شولتز، وزميلته في معسكر الاشتراكي الديمقراطي في الدنمارك، ميتا فريدركسن، وقائمة طويلة من خليط فرنسي ونمساوي وإيطالي من جماعات شبه فاشية، من أقصى اليمين القومي المتطرف، التي كانت أصلاً تحمل خطابات معادية لليهود والمسلمين المهاجرين، لتلتقي على حقيقة المكنون في العقل الباطني عن "العربي الذي لا قيمة له".
أجيال غربية من غير زمن "الكيبوتس"
الشوارع الغربية ليست شوارع ستينيات وسبعينيات خديعة "الكيبوتس الاشتراكي"، الذي برعت انتهازية المشروع الصهيوني في استخدامه، ولا هي كأجيال جديدة أسيرة فكرة التحالف "الصهيو-بروتستانتي"، والتعبير الأخير ليس من اختراع الكاتب بل السائد في أروقة النقاشات في ذلك الزمان، وحتى وقتنا الحالي تحت مسمى "الثقافة اليهودية-المسيحية"، على اعتبار دولة الاحتلال جزءاً من الحضارة الغربية.
وعليه، فحين اعتقد معسكر الصهيونية-الدينية في دولة الاحتلال أن الزمن هو ما كان من قدرة على الخداع، مع أجيال غربية سابقة، فلم يأبه لضبط خطابه، بل راح يستنبط من حقيقته التاريخية كل الخطابات التي تطالب بإبادة صريحة للفلسطينيين.
من طلب "الذبح للعرب"، كما رددها دوماً مائير كهانا (وورثته في التنظيم الإرهابي اليهودي كهانا حي) وموشيه ليفنغر، وترجمتها في مذبحة الحرم الإبراهيمي (فبراير 1994) على يد الإرهابي الأمريكي-اليهودي باروخ غولدشتاين، إلى كبير حاخامات المعسكر عوباديا يوسيف في تصوير العرب كـ"أفاعٍ وصراصير"، وقائمة طويلة من خطاب صهيوني-تلمودي موغل في الدموية والتحريض واستصدار "فتاوى" تبيح القتل حتى للرضع باعتبارهم من "الأغيار"، إذ استمد زملاء الإرهاب الأول في هاغناه وشتيرن وإرغون، جوهر الدموية والإجرام، وإن بربطات عنق في 2022، وتحت مسمى "وزراء"، بخطاب "حيوانات بشرية" (كما ذهب وزير الحرب يوآف غالانت)، وطلب إلقاء قنبلة نووية، ثم "إيلام الفلسطينيين بما هو أكثر من الموت"، إلى التجويع والحصار والترحيل القسري (كعنوان لجرائم إبادة)، إلى حماية جيش المذابح لعصابات الإرهاب من القدس فالخليل إلى نابلس وطولكرم فجنين، لعربدة وقتل غير مسبوقين. أضف إلى ممارسة الأبرتهايد وعنجهية استعلائية على كامل أرض فلسطين التاريخية، وتحت أعين الغرب المنافق.
ليس بعيداً عن ذلك، وغيره كثير، في قائمة ظهور الصهيونية عارية تماماً، راقب المتلقي، العربي والغربي، هذا الكم من هوس القتل والإبادة التي تحشى بها عقول "جنود" الاحتلال والمرتزقة من "مواطني الاستيراد الإحلاليين"، والرغبة بقتل المزيد من الرضع. بل إن التفاخر بمحو أحياء سكنية، وتدنيس المساجد، والبصق على مسيحيين يحتفلون بأعياد الميلاد في القدس، بدأت تُفضح، وهي أبداً ليست بمعزل عن الزراعة التاريخية لأفكار "اقتل كما قتل أجدادك في أريحا".
هل من جرأة عربية رسمية؟
ولعل السؤال الجوهري في كل هذه السياقات: ماذا يؤسس النفاق الغربي المفضوح في دعمه للولوغ الصهيوني في الدم الفلسطيني؟
هو سؤال برسم قادة الغرب وأحزابه، ممن ورثوا أصلاً حملات ضد اليهود دون أن يكون للعربي والفلسطيني بالأصل مسؤولية عن عار أجداد أوروبا التاريخيين.
مع ذلك وبجردة سريعة يمكن اكتشاف مستوى الكارثة الذي تؤسس له سياسات النفاق الغربي والسكوت عن جرائم الحرب في غزة.
فدعونا نقلب السردية، ولنتخيل، مجرد تخيل، أن قيادياً أو وزيراً فلسطينياً من سلطة رام الله أقدم مثلاً على ما يمارسه إيتمار بن غفير، بتوزيعه السلاح على المستوطنين، بجعل أسلحة الأمن الفلسطيني في متناول سكان مدن الضفة الذين يتعرضون لعربدة جماعات الإرهاب اليهودي.
ودعونا نتخيل أن قيادياً فلسطينياً ينادي بإبادة اليهود في فلسطين. أو أن يخرج على الشاشات، كما يفعل "ساسة" الصهاينة وإعلاميوهم، لطلب تطبيق "الحل النهائي" بضرورة تهجير اليهود.
بل لنتخيل أن وزيراً عربياً، وهو أمر بعيد بالطبع عن واقع الدونية وصفرية القيمة، يأتي للتضامن مع الفلسطينيين ليقول: أتيت إليكم كمسلم (على طريقة بلينكن).
ولنفكر بتداعيات ما إذا صحونا على "جرأة" و"شجاعة" ساسة "الأمة" لتقدم السلاح والمساعدات، باختراق الحصار، لتمكين الفلسطينيين من مقاومة الاحتلال، كما هرع الغرب، وبينهم دول أوروبية صغيرة، لدعم جرائم الاحتلال الإسرائيلي بكل وسائل الإبادة وارتكاب جرائم حرب، والسكوت عن مشاركة مواطنيهم كمرتزقة يرتكبون جرائم.
وماذا لو أن جمعيات ومنظمات وشركات عربية قامت بتخصيص أرباح لدعم "المجهود الحربي" الفلسطيني، كما فعلت تحت مرأى ومسمع الغرب شركات ومؤسسات غربية؟
ويمكن لأي إنسان تخيل قائمة طويلة أخرى تقابل ما يقوم ويصرح به الصهاينة، والتي فحضت وتعرت على مدار ثلاثة أشهر. بالتأكيد ستحضر حالة التفجع عن "التطرف" العربي، وستشهر سيوف تهمة "معاداة السامية"، لأجل المزيد من محاكم التفتيش وفرض أجواء مكارثية، وإقامة جوقات ترهيب ونصب مقاصل للعرب الذين يتجرأون على شيء يتعلق بحس العدالة وإغاثة من يتعرضون لإبادة على أرض فلسطين.
ختاماً، فالمؤسف في مشهد النفاق الغربي، وسط جبن وسكوت عربي، والذي عرفه الفلسطيني حق المعرفة منذ تأسس هذا الكيان على المذابح (والتي كشف طبيعتها مجموعة المؤرخين الجدد من اليهود، وعلى رأسهم إيلان بابيه)، هو أن يصل مستوى العرب والمسلمين إلى هذه الدونية والارتجاف من الغرب الغارق في الدوس على القيم والمبادئ العالمية والقوانين والمواثيق الدولية.
فالأنظمة التي تعرف تداعيات ما يجري على مستقبلها كان الأولى بها أن تقول للحليف الغربي-الأمريكي: أنتم تدمرون مستقبلنا في البقاء التسلطي. وبأن هذه السياسات الساكتة عن جرائم الحرب الإسرائيلية لن تولد مستقبلاً إلا المزيد من التمرد والمقاومة.
ففي المجمل يؤسس الغرب بسياساته هذه لوضع جهنمي مستقبلاً، وحفلات استبدال الحل العادل للقضية الفلسطينية بشعارات تطبيعية، وانهيار اعتماد سياسات "براغماتية" في علاقته بعالم الجنوب، وسط تحديات علاقاته بالصين وروسيا، ونسف كل ما سعى إليه الأوروبيون من علاقات مع العالم العربي، بمعية الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يأبه إلا لسوق أكاذيب وانتهازية استخدام "معاداة السامية" لتبرير جرائم الحرب وجرائم الإبادة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.