إن جرائم الحرب، وجرائم القتل العام، والإبادة البشرية – الجينوسايد، هذه المصطلحات ليست خاصة بعرق أو جنس معين، سواءً من القائمين بها أو من المغدورين، غير أن اليهود استطاعوا بجهودهم وضغوطهم الكبيرة على المجتمع الدولي لأسباب عديدة طيلة الثمانين عاماً التي مضت؛ استطاعوا بذكاء إلحاق كلمة النازية ومعاداة السامية بكل من تسول له نفسه الوقوف بوجههم بحقٍ أو بغير حق، فمن ذكر جرائمهم التاريخية بحق الأنبياء الذين أُرسلوا إليهم لإنقاذهم من طيشهم ونزواتهم المريضة، أو من تعاليم التلمود والتوراة المحرَّفة التي تنادي بقتل كل أفراد الأمم والشعوب التي في وجه طموحاتهم التي ليس لها حدود، بما فيها الأطفال والنساء والشيوخ.
فعندما حدثت عملية طوفان الاقصى في 7 أكتوبر 2023م، عدَّها الإسرائيليون الهولوكوست الثاني الذي لحق باليهود بعد الهولوكوست الأول على يد ألمانيا الهتلرية في سنوات الحرب العالمية الثانية، وحاولوا جاهدين إلصاق كلمة النازية بالمجاهدين الفلسطينيين، لاسيما بعد تخطيهم الجدار الفاصل بين قطاع غزة والمستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وغيرها.
وبشأن حفل نوفا الموسيقي الذي كان يقيمه الإسرائيليون وحضره حوالي 4000 شخص من جنسيات غربية: أمريكية وبريطانية والمانية وفرنسية وكندية وغيرها، وأثبتت التحقيقات الإسرائيلية على لسان صحيفة هآرتس أن مقاتلي حماس لم يكونوا على دراية بالحفل الآنف الذكر المقيم بالقرب من ديارهم في غزة، وأن عدداً كبيراً من قتلى الحفل من الإسرائيليين والأوروبيين قد قامت به حوامة إسرائيلية. وكل ما نشرته إسرائيل من فيديوهات ملفقة حول ما ألحقه المجاهدون الفلسطينيون بحق المستوطنين الإسرائيليين ثبت زيفها لدى الإعلام الغربي، والتي كانت قد انطلت على بعض صانعي القرار الغربي من الأمريكان والأوروبيين، ثم ثبت زيفها لديهم، ولكنه العناد والخوف من اللوبي اليهودي في بلادهم جعلهم لا يعترفون بذلك، رغم أنهم يعرفون في قرارة أنفسهم أن الإعلام الإسرائيلي ووراءه الإعلام الغربي يعرف الحقيقة المُرَّة، حيث قدّم العديد من هؤلاء الصحفيين استقالاتهم بسبب نشرهم مقالات ثبت فيها بطلان ادعاءات ومزاعم الكيان الإسرائيلي؛ لذلك أُجبروا على الاستقالة، والمثال على ذلك اثنان من كبار محرري صحيفة نيويورك تايمز.
فمن الناحية التاريخية، بدءاً من عقد الثلاثينيات من القرن العشرين ارتكب اليهود العديد من المجازر بحق الفلسطينيين قبل تأسيس الكيان العبري بدعم مباشر من سلطات الاحتلال البريطاني التي كانت تحتل فلسطين (1918 – 1947م)، مثل مجازر: مذبحة حيفا 1937، مجزرة القدس 1937، مجزرة حيفا 1938، مجزرة القدس 1938، مذبحة بلدة الشيخ 1947، وفيما بعد تأسيس كيانهم فإن المجازر بدأت الواحدة تلو الأخرى لإرهاب الشعب الفلسطيني وجعله يغادر بلاده الى البلدان العربية المجاورة، كما حدث في مجازر: مذبحة دير ياسين 1948، مذبحة قرية أبو شوشة 1948، مذبحة الطنطورة 1948، مذبحة قبية 1953، مجزرة جنين، مجازر صبرا وشاتيلا في لبنان 1982، مذبحة الاقصى الأولى 1990، مذبحة الخليل 1994، وغيرها التي لا تُعد ولا تُحصى، وآخرها المجزرة البشعة في غزة حالياً شهري أكتوبر ونوفمبر عام 2023 أمام أنظار العالم الغربي المتحضر، وكأنما يحدقون في فيلم سينمائي!
أي بعبارة أخرى أن المجازر وجرائم الحرب استمرت أكثر من 90 عاماً بحق الفلسطينيين من أيام الوكالة اليهودية، وفيما بعد على يد الكيان الصهيوني، وليس كما يردد البعض من محرري وصحفيي بعض الجرائد والمجلات العربية 75 عاماً .
لذا نجد أن ما يحصل في إسرائيل عموماً هو التوجه نحو تنفيذ توراتي محرَّف وتلمودي للقتل الجماعي للعرب المسلمين في غزة والضفة الغربية، فيوثق الباحث والأكاديمي الإسرائيلي، إسرائيل شاحاك، في كتابه "الديانة اليهودية وتاريخ اليهود" هذا المنطق حين يكتب: "لكل هذه الشعوب يجب أن تُباد إبادة كاملة [الكنعانيين والميدانيين (= سكان مَدين) والعمالقة] ويكرر التلمود والأدب التلمودي هذا الحض التوراتي على الإبادة الجماعية بحماسة أشد من حماسة التوراة، ولقد استشهد أحد الحاخامات الإسرائيليين المهمين استشهاداً وقوراً بآيات توراتية تحضّ على الإبادة الجماعية للميدانيين من أجل أن يبرر مذبحة قبية. (المرجع السابق، ص ١٥٢ باللغة العربية، ص٩١ باللغة الإنكليزية)
وتجدر الإشارة إلى أن الميدانيين والعمالقة (العماليق) من شعوب فلسطين القديمة المذكورة في التوراة والتي أمرت الأحكام الدينية اليهودية بإبادتهم عن بكرة أبيهم مع العلم، بأن العديد من حاخامات اليوم يعتبرون الفلسطينيين مثل العمالقة والميدانيين. وعن ذلك كتب الصحفي الإسرائيلي الفرنسي (آمنون كابيليوك): ".. قبل [اتفاقيات] أوسلو بوقت طويل كان هناك فاشيون مكافحون في جامعة بار إيلان. [جامعة العلوم الدينية اليهودية] . ففي شهر شباط/فبراير من عام 1980 كتب الحاخام "إسرائيل فيس" في صحيفة "بات كول" الطلابية مقالاً بعنوان: "الإبادة الجماعية في التوراة" قال فيه إن العرب هم من سلالة العمالقة الذين قالت التوراة إنه على اليهود إبادتهم كلياً..".
وفي هذا الصدد هناك رسالة استفتاء من جندي يهودي في جيش الكيان الإسرائيلي، وجوابها من الحاخام شمعون وايزر: يقول السائل الجندي موشيه: "… في إحدى المناقشات التي جرت في مجموعتنا، دار نقاش حول (طهارة السلاح) وبحثنا فيما إذا كان مسموحا لنا بقتل رجال غير مسلحين ـ أو نساء وأطفال ـ أو ربما إذا كان علينا الانتقام من العرب؟ ثم أجاب كل واحد منا بحسب فهمه للأمر، ولكنني لم أستطع التوصل إلى قرار واضح، وما إذا كان ينبغي أن يعامل العرب مثل العماليق، أي أنه مسموح للمرء بقتلهم حتى تمحى ذكراهم تحت السموات، أو ربما كان على المرء أن يفعل كما يحصل في الحرب العادلة التي يقتل المرء فيها الجنود فحسب؟". فكان جواب الحاخام شمعون باختصار:"بعون السماء، عزيزي موشيه، تحيات […] أفضل الأغيار أقتله، أفضل الأفاعي اسحق نخاعها"، بقية الفتوى استدلالات من التلمود وأقوال الحكماء القدامى من الهالاخاه (النظام القانوني لليهودية).
رد الجندي موشيه: "إلى المحترم حاخامي العزيز […] أما بالنسبة للرسالة، فقد فهمتها كما يلي: في زمن الحرب ليس مسموحاً لي فحسب، ولكنني مأمور بأن أقتل كل عربي أصادفه، رجلاً كان أم امرأة، إذا كان هناك سبب للخوف من كونهم يساعدون في الحرب ضدنا، إن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة".
ولكننا لن نتطرق لدى بحثنا لهذا الحكم الحاخامي من الناحية الحقوقية، ولا من الجانب الأخلاقي، وإنما من الطريقة اللغوية التي استخدمها النص حيث يقول: "اسحق نخاعها" فلماذا هذه الدموية الحاقدة؟ وأين هو نص مشابه في أية ديانة من ديانات العالـم من مصر إلى بلاد الشام إلى البابليين إلى الهند والصين إلى حضارات أمريكا الوسطى والجنوبية، بل إلى جميع أنحاء البشرية؟ وما هي طبيعة المؤسسات التي تستخدم هذه التعابير الاستفزازية الوحشية في تعاملها مع بني الإنسان؟ ترى هل نلاحظ الربط المتعمّد بين الأفاعي السامة المغضوب عليها من الله حسب سفر التكوين في التوراة، الإصحاح الرابع، وبين الأغيار؟
ويقول أيضاً: "ويكرر التلمود والأدب التلمودي هذا الحض التوراتي على الإبادة الجماعية بحماسة حتى أشد من حماسة التوراة… ومن المألوف في الواقع أن تلقى في جنود الاحتياط الذين يجري استدعاؤهم لدورة خدمة في قطاع غزة، محاضرات تثقيفية يقال لهم فيها، إن فلسطينيي غزة يشبهون العماليق، ولقد استند أحد الحاخامات الإسرائيليين المهمين، بآيات توراتية تحض على الإبادة الجماعية، وقد أحرزت هذه الفتوى تداولاً واسع النطاق في وسط الجيش الإسرائيلي، وهناك أمثلة مشابهة كثيرة، على التصريحات الحاخامية المتعطشة للدماء، المناهضة للفلسطينيين والتي تستند إلى هذه القوانين" (المرجع السابق، ص 152) يعني قوانين (الهالاخاه).
ويتابع هذا الحاخام "الوحش"!، فيقول: "وسيأتي اليوم الذي يُطلب منا جميعاً الانطلاق في هذه الحرب المقدسة لإبادة العمالقة العرب. وفي هذه الحرب لن يكون هناك رأفة. فواجب القتل والإبادة يشمل حتى الرضع، فالعمالقة يحاربون شعب الله. (كابيليوك، كتاب عن مذبحة صبرا وشاتيلا ص157). ويبدو أن الحاخام في دعوته القاتلة يستند الى النص التوراتي الذي يقول: "… فمتى أراحك الرب إلهُك من جميع أعدائك حولك في الأرض التي يعطيك الربُ إلهُك نصيباً لكي تمتلكها تمحو ذكر عماليق من تحت السماء لا تنس"، ( تثنية ٢٥: ۱۹).
وعلى هذا الأساس تعتبر المذابح الجماعية كما في دير ياسين وكفر قاسم وقانا وقبية وحالياً (غزة بصورة بشعة) عملاً مشروعاً، بل إنه تنفيذ لمشيئة رب اليهود. ومن يتابع الأحكام التي أوقعت بمرتكبي تلك المجازر يجد أنها برأت بعضهم وحكمت على بعضهم الآخر بأحكام تستدعي الإبتسام أكثر من كونها عقاباً. لقد وصل إلى علمنا بأن من يُحكم عليهم بالسجن لقتلهم فلسطينيين يعاملون معاملة متميزة تعوضهم عن كل أذى لحقهم بل تجعل أيام سجنهم رحلة إلى الجنة لكثرة الدلال والترفيه.
وهذا من جملة شواهد كثيرة لا تُحصى، تؤكد أن مجتمع الكيان الصهيوني، يظهر بصورتين متناقضتين، صورة للعالم الخارجي حيث يقيم مؤسسات ديمقراطية، ويتبنى ما يسمى بالبنية العصرية للدولة، ويتبجح بالإيمان بالتعددية تلك الفكرة الغربية الكاذبة والمخادعة، والصورة الأخرى داخلية حيث يؤمن ذلك الكيان، وعلى أعلى المستويات السياسية ـ حتى رئيس الوزراء نتنياهو السفاح ـ يؤمن بخرافات ما يسمى الحكماء القدامى الذين وضعوا أصول (الهالاخاه). ويشبه هذا الخداع اليهودي، إلى حد كبير، خداع العالم الغربي عندما يتبنى العلمانية الليبرالية والديمقراطية والتعددية، وحقوق الإنسان الذي تحدده وترعاه مبادئ الأمم المتحدة، ستاراً يخفي وراءه التعصب الديني المتحالف مع الصهيونية ضد الإسلام والمسلمين.
وعلى أية حال فيزعم نتنياهو– في تصريح له في سياق الحرب الحالية على غزة – أنَّ الجيشَ الإسرائيلي "هو أكثر جيش أخلاقي في العالم"؛ فهو "يفعل كل ما في وسعه من أجل تجنّب إيذاء غير المتورّطين في الحرب"، واتهم "هؤلاء الذين يجرؤُون على اتهام جنودنا بارتكاب جرائم حرب" بأنهم "مشبّعون بالنفاق والأكاذيب، ولا يمتلكون ذرّة من الأخلاق". وكان من اللافت أن برونو ريتايو – قُدم على أنه باحث ومجند إسرائيلي سابق – قد طالب بوقف إطلاق صواريخ تحذيرية لسكان غزة؛ لأنه لا يوجد "سكان" في غزة، وإنما نحو 2.5 مليون إرهابي بزعمه، وهو ما تكرّر على لسان أكثر من إسرائيلي بالصوت والصورة!
تقدّم إسرائيل إذن- سواء من خلال خطابَيها الديني والسياسي، أم من خلال ممارساتها الفعلية في الحرب على غزة- نموذجًا فجًّا للتوحّش الذي يدّعي – في السياق اليهودي – استعادة "قيم التوراة"، ويزعم – في السياق الدولي – أنه لا يخالف القانون الدولي والإنساني. ورغم أن الأحكام والتقويمات الأخلاقية بحاجة – دومًا – إلى تعليل وتسويغ، وأن سلوك الدول والأفراد هو محلّ للمساءلة النقدية والتقويمية؛ فإنَّ السمة الأساسيّة للخطاب الإسرائيلي هي أنه هو نفسه المعيار، ولا يخضع لأي معيار، بل يُقدم نفسَه على أنَّ أخلاقيته من الوضوح بحيث لا تقبل النقاش وقد تجاوزت حصيلة شهداء القصف الإسرائيلي على غزة حتَّى كتابة هذه السطور أكثر من 12 الف، وتجاوز عدد الأطفال منهم 4 آلاف حتى اعتبرت اليونيسف غزة "مقبرة للأطفال"، واقترب عدد النساء من 3 الاف، فضلًا عن قصف المستشفيات والمرافق الصحيّة التي بلغت نحو 120، اومؤسسات الأونروا أكثر من 64 مركز ومدرسة، وأكثر من 100 مسجد وجامع، الأمر الذي دفع بعض الجهات الدولية إلى الحديث عن "إبادة جماعية" تقوم بها إسرائيل في غزَّة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.