أتساءل منذ فترة: "أين ذهب الرجال؟"، هذا سؤال ثقيل جداً، لكنني أحاول جاهدة العثور على إجابة، والعثور أيضاً على رجل، أجول بناظري على خارطة الوطن العربي، أحاول العثور على واحد، يمنحني شعوراً بالأمان؛ أنه -في مكان ما- لا يزال هناك رجال يملكون بعضاً من نخوة، يقفون بالباب إنْ طرقه عدو، يدافعون عن نسائه، وينصرون من استنصرهم، رجال يملكون في قلوبهم نخوة، وفي أنفسهم شرفاً، وفي أرواحهم كرامة، لكن الأمر بدا لي عسيراً جداً!
مجموعة تحت الأرض
سمعت بمجموعة من الرجال، لا يزالون هناك رابضين تحت الأرض، يقتاتون على تمرات معدودات، ويثخنون الأعداء في صميم قلوبهم، يضربون ضرباتهم ويعودون إلى نقطة لا يعلم أحد مكانها، أود أن أعلم مكانها، لعلي أرى عن قرب كيف يكون الرجال!
سمعت أيضاً أن العالم يحاربهم، وهم يقفون وحدهم هناك، شاهرين أسلحتهم، محتفظين بكرامتهم، يرددون باستمرار: "وإنه لجهاد، نصر أو استشهاد".
بحثت عنهم أكثر، لعلي أحصل على خبر عنهم، ووجدت أموراً عجيبة، رأيت أحدهم، وقد فقد يده اليمنى، لكنه ظل يمسك بالسلاح بيده اليسرى، لم يكن سلاحاً عادياً، كان سلاحاً ثقيلاً جداً، ليس أثقل منه سوى خيبة أصحاب السمو، رأيت آخر يخرج ليواجه الموت بصدر مكشوف، ثم يعود إلى قواعده، ليواجه الموت من جديد، يظل يحاول أن يكون رجلاً حقيقياً، أو شهيداً كما يجب أن يكون، على طريقة "لا أبرح حتى أبلغ"، فيصيب نصراً، هاتفاً: "ولعت"، أو يصيب شهادة يرددها في صمت فلا يسمعها سوى الله، ولا يبقى منه سوى سبابة مرفوعة، تقول: "كان ثمة رجل هنا". رأيت ذلك الشاب الذي اختار طريقة استشهاده، فسجد ليقابل الكريم، وجهه موجَّه نحو اليمين.. أي رجل كان هذا؟!
أشباح على الحدود
بحثت أكثر، ولجأت إلى جوجل، أسأله: أين اختفى الرجال؟ فأخبرني أنه لا تزال هناك مجموعة على الحدود اللبنانية الفلسطينية، تقاتل وحدها، نصرة لـ"رجال الأرض"، زمرة من الرجال لا تبدو وجوههم واضحة، ولا يسمع أحد عنهم، إلا حين يقابلون وجه الكريم، صرت أتتبع أخبارهم على الشاشات العامرة بالدماء، يستشهدون دون أن يعلم أحد أسماءهم أو كم كانت أعمارهم، رجال يحاربون في صمت ويرحلون دون ضجيج، فالله وحده يعلمهم، وأظن أنه يحبهم كثيراً، فهم من نوعية لم يعد لها وجود.
شاب مصري غريب
عثرت على رجل آخر، يقولون إنه كان يملك أمراً غريباً في جسده يدعى كرامة، اسمه محمد صلاح، لا، ليس هذا الذي ارتدى قرون الوعول في المملكة المتحدة هناك، ولكنه شاب صعيدي بسيط، لا يملك قصوراً ولا مليارات، فقط كرامة ورجولة لم يعد لها وجود، بحثت عنه أكثر لعلِّي أصل إليه ليعلمني كيف يكون الرجال حقاً، لكنه لحق بالرفيق الأعلى قبل شهور، هكذا الأمر إذاً، إنهم يقتلون الرجال متى عثروا عليهم، ليس هذا فحسب، إنهم يمنعون تشييعهم في جنازات تليق بهم، يذهب الرجال إلى مثواهم في صمت، فلا يحتفي بهم هؤلاء الذين كلما عثروا على رجل حقيقي قتلوه!
رجال في الماء!
استعنت بجوجل، وسألته مرة أخرى: "عزيزي جوجل، أين يمكن أن أعثر على رجال حقيقيين؟"، فأخبرني أن هناك مجموعة تطل على البحر الأحمر وتحكمه، رجال لم تردعهم حاملات طائرات، ولا غواصات نووية، ولا عالم تكالب على كل رجل، أخذوا الأمر لآخره، فانسحبت أمامهم الجيوش، وتراجعت حاملات الطائرات، واكتفى المجرمون ببيانات جماعية ينددون فيها ويشجبون على طريقة المخنثين.
بحثت عنهم أكثر فعلمت بعضاً من سمات الرجال الحقيقيين، يمكنني أن أجملها لك في نقاط، ولكن لا تستغرب يا قارئي العزيز، امرأة كنت أو غير ذلك:
الرجال ينصرون من استنصر بهم
الرجال لا يرقصون في مواسم
الرجال لا يهابون سوى الله
الرجال يصدقون كلمتهم
الرجال يقفون للنهاية
الرجال يؤمنون بالله
الرجال يقولون فيفعلون
الرجال لا يخونون
الرجال لا يطبِّعون
الرجال لا يشجبون ولا يدينون.. فقط ينتصرون
الرجال لا يقبّلون يداً تطعم أفواههم فتستحيي عيونهم
الرجال، ليسوا هؤلاء الذين صاروا في نظري كالدجاج، يتناولون الغلة بجنون ويستعدون للحظة الذبح، كل هذا الدجاج حولي يصيبني بالغثيان، تزكم أنفي روائحهم، وتصيبني نطاعتهم بالاشمئزاز.
صرت أخشى من ذلك اليوم الذي قد أستيقظ فيه بعالم خلا من الرجال، عالم يرقص ويضحك ويتمنى سنوات جديدة سعيدة، بلدان اجتاحتها حمى الرقص، يرقصون في ليالٍ يموت فيها الأطفال، ويرقصون أمام لجان انتخابية، ويرقصون في صالات رياضية، عالم مخبول رجاله مشغولون بالدفاع عن بعض من شرف لا يزال هناك، بينما ملايين ممن يندرجون تحت خانة "غير ذلك" يحيلون العالم جحيماً، تتسع خروقهم حتى صارت أوسع من أن يرتقها راتق!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.