القانون نائم، سجن الله من أيقظه. ولأنه نائم، ومتدثر بـ"الفيتو" الأمريكي، يبقى طوق النجاة الوحيد أمام التاريخ هو صحوة الضمير. فهناك أحداث إذا ما سكت المرء حيالها، يصبح منحازاً عن سبق إصرار وترصد للجلاد على حساب الضحية.
قبل أيام، رأيت كيف تمسك "الجبل" وائل الدحدوح بيد نجله حمزة بكل قوة. كان المشهد مؤلماً لي. أولاً كإنسان، وثانياً كأب. فليس هناك أبشع من أن يشيّع الأب فلذة كبده. لهذا أكاد أجزم أن وائل الدحدوح، استرجع شريط الذكريات منذ أن أمسك حمزة بسبابته وهو رضيع، إلى أن تمسك هو بيده الباردة من وراء الكفن. وائل الدحدوح كان يرى استمرارية رسالته الصحفية في حمزة، لكن الأقدار كان لها رأي آخر. ولربما أرادت أن تقول لإسرائيل، بدل أن تواجهي حمزة الدحدوح مستقبلاً، فستواجهين مئات الصحفيين حول العالم، وجب على معاهد الصحافة والإعلام التي تكوّنهم، بأن تطلق عليهم هذه السنة "فوج وائل الدحدوح".
لست أدري ما هي الدولة العربية المحظوظة التي ضمّ كفنُها جسدَ الشهيد حمزة وائل الدحدوح، وغيره من شهداء فلسطين مسلمين ومسيحيين. فأقصى ما يستطيعه العرب والمسلمون في هذا العصر، هو مساعدة الفلسطينيين بالأكفان. 23 دولة عربية، و473 مليون عربي، و57 دولة إسلامية، ثم تأتي جنوب أفريقيا العلمانية لتتزعم الترافع عن الدم الفلسطيني أمام المحكمة الجنائية الدولية. 57 رئيساً وملكاً لا يستطيعون مجتمعين إدخال شربة ماء لأطفال ونساء فلسطين، أو علبة دواء لأطفال ونساء فلسطين، أو بطانية لأطفال ونساء فلسطين، أو كسرة خبز لأطفال ونساء فلسطين. أقول النساء والأطفال، وليس الرجال، لأن رجال فلسطين أيقنوا منذ زمن بعيد، أننا خيل بلا قوائم، لا يمكن الرهان عليه لكسب عزة التاريخ. ولهذا فهم يستندون على بنادقهم في رحلتهم الطويلة نحو الاستقلال، مفاخرين بصبر معتقليهم في سجون الاحتلال، مصممين على ألا يدنسوا أجسادهم بالأكفان العربية. فلا وقت للشهيد لارتداء الكفن.
المؤرخون الذين سيأتون بعد 100 عام من الآن، سوف يكتبون في المناهج التعليمية، أن عرب النصف الثاني من القرن العشرين، وعلى امتداد 100 سنة كاملة، كانوا أجبن وأتعس وأكسل العرب على مر التاريخ. قمحهم من حقول عدوهم، صحتهم في مستشفيات عدوهم، دراستهم في جامعات عدوهم، يشعلون الحرب فيما بينهم بسلاح عدوهم. لكنهم حتماً سيستثنون الفلسطينيين من هذا العار.
ما أصدقك يا قباني حيث تقول:
"نحن شعب من عجين
كلما تزداد إسرائيل إرهاباً وقتلاً
نحن نزداد ارتخاءً وبروداً"
وكم كنت محقاً يا درويش وأنت تردد:
"هل نحتل مئذنة ونعلن في القبائل
أن يثرب أجرت قرآنها ليهود خيبر؟"
وما أجرأك يا نواب حين صارحت:
"سنصبح نحن يهود التاريخ
ونعوي في الصحراء بلا مأوى"
أقول لوائل الدحدوح ما كان يقوله الشهيد أبو عمار: "يا جبل ما يهزك ريح". ولست أدري هل علينا أن نعزيكم في شهدائكم، أم أن تعزونا في موت نخوتنا من المحيط إلى الخليج! لكن، ما أنا متيقن منه حتماً، هو أن شعباً فيه أمثالك، وأمثال أبي عبيدة، ومروان البرغوثي، وأبطال "المسافة صفر"، وأشبال يعبرون من الرضاعة إلى الرجولة أمثال أيهم الصباح؛ لا يمكن إلا أن ينتصر على المحتل، طال الزمان أم قصر. وتربة فلسطين التي احتضنت ياسر عرفات، وصلاح خلف، وخليل الوزير، وغسان كنفاني، ويحيى عياش، وأحمد ياسين، وعبد العزيز الرنتيسي، وصالح العاروري، وغيرهم من الشهداء من مختلف الفصائل الفلسطينية، ستنبت بدل القائد عشرة. فلا القتل يفني المقاومين الفلسطينيين، ولا الاعتقال يكسر شوكتهم.
بعد 10 سنوات أو 10 قرون، ستقوم دولة فلسطينية، عاصمتها القدس الشريف، هذا وعد من التاريخ، ووعد من الله، وكلاهما لا يخلف وعده. دمتم تاجاً فوق رؤوسنا أيها الأبطال المقاومون.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.