انطلاقاً من كون التاريخ يُروى لإيقاظ الرجال وليس قَصصاً لتنويم الأطفال، وسعياً للمساهمة في تبصير الأمة عموماً وبقضيتها المركزية خصوصاً ورفعاً لمستوى وعيها بحقيقة الصراع وطبيعة الاحتلال، وتغليباً لمنطق التحليل الاستراتيجي على منطق التعامل العاطفي مع الأحداث؛ نعود في التاريخ إلى حرب أكتوبر/تشرين الأول 73 للتشابه الكبير بينها وبين طوفان الأقصى من حيث إشراقة البدايات حيث تماثلا في:
1- المبادرة بالتخطيط والتنفيذ، وليس كما تعودنا عليه منذ وعد بلفور فقط أن الكيان ورعاته من يبادرون ويهاجمون ومن ثَّم يُحصِّلون المكاسب المختلفة بالقوة القاهرة أو الناعمة.
2- مباغتة العدو وتحصيل مكاسب على الأرض لم تُحقق من قبل وفي كل المواجهات السابقة التي انتهت دوماً لصالح العدو؛ إما بقضم مساحات جديدة لزرع مستوطناته أو بتحييد مؤقت أو نهائي لتهديدات المقاومة أو بانتصارات سياسية كالتطبيع وما شابه من صور الاستسلام والخنوع.
3- الأثر البالغ في السياسات الدولية وإعادة القضية إلى المداولة بعد غلبة الظن بحسمها، وما التحرك القوي للغرب عموماً وأمريكا تحديداً لنجدة زرعتها الملعونة إلا إشارة صريحة إلى ذلك.
لكن رضانا بالبدايات لا يغرينا أبداً بالزهد أو الغفلة عن المآلات، فالعبرة بالنهايات، ويلخص هذا المثل المعروف: "البدايات كاذبة مهما كانت مُقنعة، والنهايات صادقة مهما كانت قاسية".
وهذا ما وقع في أكتوبر73، فبعد البداية المشرقة وتحقيق انتصارات على الأرض (تدمير خط بارليف، توغل بأكثر من 20 كم) إلى حد شعور الكيان بالتهديد الوجودي، انقلب الوضع وتحول إلى نصر للعدو حقق من خلاله مكاسب استراتيجية هي من حددت مسار الصراع منذ ذلك الوقت حتى أوشكوا على تصفية القضية تماماً وتحويل الفلسطينيين إلى هنود حمر جُدد إلى أن جاء الطوفان وأخلط الأوراق.
وإن أردنا تفسير صدق وقسوة نهايات حرب 73 نجد أن أمريكا لعبت الدور الأساسي في هزيمتنا، وكان البطل البارز آنذاك "كيسنجر"، وزير خارجيتها حينها، وما يهمنا اليوم ما يظهر من سعي وزير خارجيتها الحالي (بلينكن) لنيل البطولة هذه المرة محاولاً إعادة نفس الدور وبنفس الأساليب بهدف الوصول إلى نفس النهايات بمنطق "نفس المقدمات تؤدي بالضرورة إلى نفس النتائج".
أولاً: من كيسنجر إلى بلينكن؛ في تقديري أن من أهم مصادر قوة الولايات المتحدة هي مراكز الدراسات والبحث التي تقوم بدور مهم في صنع القرار الأمريكي منذ الحرب العالمية الثانية على الأقل؛ حيث تقوم بتحليل المعلومات التي توفرها أجهزة المخابرات وتضع على ضوئها خططاً واستراتيجيات مناسبة لإدارة الصراعات (هذا ما صنع الفارق ومكّنها من الانتصار على "الاتحاد السوفييتي" الذي كان يوازيها تقريباً في القوة العسكرية) لكن يظهر أن اغترارها بقوتها واطمئنانها لمظاهر واقع "ما بعد أوسلو" أعمى بصيرتها وجعلها لا تشعر بالحاجة لخطط جديدة مناسبة لتطور الأوضاع، فظهر بلينكن كمقلد سيئ لقدوته كيسنجر، ويبرز ذلك في اتباعه نفس محكمات سياسة كيسنجر التي تعامل بها قبل 50 سنة في حرب 73 وما تلاها، فنجد:
1- إعادة سيناريو الدعم العسكري غير المحدود: فإذا كان إسراع كيسنجر لنجدة الكيان بإقامة جسر جوي لنقل الأسلحة والذخائر (لم تعرف أمريكا مثله من قبل) يمكن تفهمه لأن المواجهة كانت مع جيوش نظامية من جهة، ومن جهة ثانية كانت مدعومة من قبل قوة عالمية حينها ممثلة في الاتحاد السوفييتي. فإن غير المفهوم هذه المرة التدخل المباشر لأمريكا في الحرب على غزة، فلم تكتفِ بالجسر الجوي المستمر إلى يومنا، ولا بالدعم الاستخباراتي الواسع، بل حركت أساطيلها، وشاركت حتى في القتال على الأرض عبر قوات خاصة أو عبر خبرائها "في حرب العصابات والمدن" لرسم الخطط لضرب المقاومة!
ويزيد استغرابنا لتداعي الغرب على حرب غزة عندما نتذكر أنها محاصرة تماماً منذ عقدين، وأن شعبها يعاني في سجن مفتوح محاط بأسوار يقال إنها ذكية، وأن ما تملكه فصائل المقاومة من أسلحة (كماً ونوعاً) مهمل أمام أسلحة وتجهيزات جيش العدو ومن يدعمه.
2- إعادة سيناريو الرحلات المكوكية: وهي عشرات الرحلات والجولات المتلاحقة التي قام بها كيسنجر بين عواصم الدول المتحاربة حينها، والتي تمكن من خلالها من تحقيق مكاسب استراتيجية ضخمة للعدو لم تحققها الحرب في حد ذاتها، فبعد أن ذهب عن أمريكا روع الطوفان طبقت نفس الخطوة مع الفارق:
– فلم تكتفِ بتنقل بلينكن فقط، بل كل أركان الحكومة الأمريكية تقريباً، وحتى العجوز بايدن اضطر للتنقل شخصياً لإعلان الحرب إلى جانب الاحتلال.
– زايد بلينكن على مَثَله الأعلى كيسنجر(اليهودي أيضاً) بأن أكد أن دعمه للاحتلال ينطلق من كونه يهودياً يوظّف قوة أمريكا لنصرة إخوانه.
– لم يراعوا اختلاف ظروف الطوفان عن ظروف 73، ولم يأخذوا بعين الاعتبار طبيعة من يحاربون ومنطلقاتهم، فإذا كان كيسنجر، بدقة بوصلته الضابطة لهدفه الوحيد (تثبيت مشروع الاحتلال)، نجح لأنه فاوض قيادة تفتقد للحس الاستراتيجي، مكشوفة نواياها وخططها، تنخرها الخيانات من الداخل وزادتها الفُرقة وتضارب الأهداف ضعفاً وهشاشة، استغفلهم وأقنعهم أنه طرف محايد راعٍ للسلام!، فإن بايدن وإدارته أعلنوا انحيازهم من أول لحظة رافعين سقف إملاءاتهم عالياً. فها هو بلينكن في أول تصريحاته في بداية الحرب يأمر قادة المقاومة بالاستسلام وإطلاق الأسرى، معتقداً أنه كاتب سيناريو أو مخرج فيلم لرعاة البقر الأمريكيين! فحتى اللحظة، وبالرغم من المساومات والضغوطات الكبيرة التي مارسوها بطريقة مباشرة أو عبر وكلائهم في المنطقة على المقاومة وحاضنتها الشعبية، لم تحقق مكوكياتهم التي لم تتوقف أي مكسب معتبر، بل سجلنا مع مرور الوقت خفضهم لسقف أهدافهم والذي يظهر في تعديلاتهم المتكررة لخططهم ومطالبهم، آخرها إعلانهم التسليم بوجود حماس في المشهد بعدما كانت قبل أيام منظمة إرهابية لا حل معها إلا الاستئصال.
3- اعتماد سياسة الغموض البناء، وهي أسلوب اعتمده كيسنجر في حرب 73 حيث قام على مقومات ثلاث هي: تفكيك وحدة العرب فلا تفاوض جماعياً مقابل الكيان وحده.
– تجزئة مسار الصراع (موضوعياً)، فكل دولة تتحدث فيما يخصها فقط. – المماطلة وتجزئة الحل واللعب على عامل الزمن.
وهذا ما أصرت أمريكا على فعله الآن، فبمنطق التفكيك حرصت من أول يوم على الاستفراد بغزة ومحاولة استئصال المقاومة فيها، فهددت من توقعت تحركهم لدعم غزة من أصحاب شعار "وحدة الساحات" أو غيرهم، واستعانت بسلطة أوسلو لقمع أي تحرك في الضفة، وجمعت دول الطوق لتوظيفها في مشاريعها التي تتوافق فيها معها سراً أو علانية ويعتقدون ببلاهة أنها خادمة لاستمرار أنظمتهم.
كما استعملت مبدأ التجزئة في محاولة سحب أهم ورقة ضاغطة في يد المقاومة وهي ملف الأسرى عبر ما سُمّي بهدن إنسانية متقطعة تُفضي إلى تحرير أسراهم مقابل ثمن زهيد ودون أن يقابلها وقف للعدوان، كما يظهر في سعيها لفصل ملفات ما بعد العدوان، وإعمار غزة، وغيرها، عن مسار الحرب ودور المقاومة.
أما مبدأ الممطالة، أو لنقل السير خطوة خطوة بهدف تفريغ الحل وحرمان المقاومة من الوصول إلى أي نتيجة، فهذا ما تسعى إليه أمريكا عبر أنظمة التطبيع الموكلة بالتشويش عبر طرح مشاريع خادعة في منطلقها المعلن وهو التعاطف مع الحاضنة الشعبية للمقاومة، ومخادعة في أفكارها وبنودها والتي تقوم على مبدأ "لا قبول ولا رفض" والتأجيل اللانهائي لكل بند لا يخدم مشروع الكيان، مع التركيز على رفع تكلفة الحل (البشرية والمادية) وإطالة أمد المعاناة.
ثانياً: قيادة الطوفان أوعى
أثبتت قيادة الطوفان اليوم أنها تختلف جذرياً عن قيادة "حرب 73" بـ:
1- حسّها الاستراتيجي العالي وامتلاكها خطط تحرك واضحة أربكت العدو ورعاته.
2- قدرتها على التكتم وحماية خططها وأهدافها.
3- وحدة صفها وثقة حاضنتها الشعبية فيها.
4- تصنيفها الواعي لمختلف الأطراف وتعاملها الذكي معهم، مع حرصها على إبقاء زمام المبادرة في أيديهم.
فالمكشوف اليوم هو مشروع العدو، وملخص ما تسعى إليه أمريكا هو العودة إلى وضع "اليوم السابق" للطوفان؛ فتحرم الشعب الفلسطيني من ثمار النصر وتمسح كل أثر لا يخدم مشروع كيانها، فتكمل تصفية القضية وتستكمل التطبيع من المرحلة التي توقف عندها بسبب الطوفان (صورة بن سلمان وهو يتجهز للدخول إلى الملعب..)، وتُتمّ بناء التحالف الاستراتيجي الذي جعله الطوفان محل شك بهدف كتم أنفاس الأمة، يقوده عسكرياً باسمها "الكيان" بما يسمح له من خلق وضع جديد يحول غزة إلى ضفة جديدة. فالصورة واضحة تماماً لدى قيادة المقاومة، وتقوم على: أنه لا راعي سلام بل شريك في العدوان، ولا خادم للقضية وهو مطبع بل خائن يدعم العدوان، ولا قيم إنسانية حقيقية بل حرب عقدية، وهذا ما يطمئننا ويجعلنا نتفاءل خيراً ونتوقع أن تكون النهايات مشرقة ومؤسسة لبداية النهاية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.