مما لا شك فيه أن عملية اغتيال الشهيد صالح العاروري تعد حدثاً بارزاً على المستوى الإقليمي والعالمي، وتختلف أهمية اغتيال ذلك البطل المقاوم، حسب منظور كل طرف، فبالنسبة لإسرائيل يعد اغتيال العاروري أهم عمل تقوم به منذ بداية الحرب الهمجية على قطاع غزة الصامد، وذلك باغتيالها أحد أهم المطلوبين لها.
عن طريق اغتيال العاروري يحاول الاحتلال واهماً استعادة هيبة أجهزته الاستخباراتية والأمنية (الشباك، الموساد)، التي بعثرتها المقاومة، لكن هذا بالطبع لا يُخفي تخوّف القيادة السياسية للاحتلال في تل أبيب من تبعات هذه العملية الإرهابية.
بالطبع يعد اغتيال العاروري خسارةً كبيرة لأحد أبرز قادة المقاومة، لكنه في الوقت نفسه يبرز ويؤكد على شكل وتنظيم المقاومة كحركة تحرير لا تقف عند شخص ما، مهما بلغت مكانته، بل ويؤكد جوهر نبل مقاوميها، وكيف أن كلاً منهم ينتظر الشهادة أكثر من أي شيء آخر.
خلَّف اغتيال العاروري صدى واسعاً لدى دول المنطقة، وكذلك دول الغرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ويتجلى هذا الصدى في التخوّف من اتساع رقعة الحرب الدائرة في غزة الأبيَّة، بدخول فاعلين آخرين أبرزهم حزب الله.
في ظل أُفول العدالة في عالمنا اليوم، وتراجُع سلطة القانون على جميع المستويات، يأتي الاحتلال بإطلاق الرصاص على هذه المنظومة الدولية بعلاقاتها وقوانينها، إذ لا يُعطي الاحتلال أيَّ اعتبار لأي قانون أو لمبدأ منذ نشأته، ومَن يتهمون المقاومة باتهمات واهية تحت مسمى القانون والنظام، فلينظروا للاحتلال الذي ينتهك سيادة الدول، ولن نذهب بعيداً لسرد تاريخ الاحتلال من الجرائم، بل لنبدأ من عملية الاغتيال الأخيرة تلك، التي انتهك واستباح فيها سيادة الأراضي اللبنانية.
اغتيال صالح العاروري.. هكذا ينتهك الاحتلال سيادة البلدان والقوانين الدولية
يُلقي اغتيال العاروري داخل أراضي الجنوب اللبناني الضوءَ على النقاش مرة أخرى حول مدى فاعلية القانون الدولي، ومدى التزام الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بمواثيقها، فبجانب الانتهاكات التي تنتهكها دولة الاحتلال منذ نشأتها، انتهك الاحتلال بالاغتيال أكثر من مبدأ أممي، أبرزها مبدأ السلم وكذلك مبدأ السيادة.
إذ قام بعمل عدائي وتعريض حياة مدنيين وممتلكاتهم للخطر في غير حالات الحرب، وهو انتهاك سافر لمبدأ السلم الدولي، حتى إن سلمنا بذريعة أن العاروري موضوع بقوائم الإرهاب، فإن معاقبة شخص واحد لا تُبرر تعريض مدنيين للخطر وإراقة دمائهم، كما أن التصفية الجسدية دون محاكمة عادلة محرمة دولياً.
أما المبدأ الدولي الثاني الذي قامت إسرائيل بانتهاكه فهو مبدأ سيادة الدول على أراضيها، والذي يعد من أقدم مبادئ القانون الدولي، ويرتبط بصلح وستفاليا، الموقَّع سنة 1648، والذي انتهت به حرب الـ30 عاماً في أوروبا، حيث استباح الاحتلال السيادة اللبنانية، وقام باقتحام مجال لبنان الجوي عبر طائرة مسيّرة، وقام بعمل إرهابي داخل التراب اللبناني دون أي مبالاة بالقوانين الدولية ولا أي اعتبار لحكومة تلك الدولة المجاورة.
وما يزيد المشهد وقاحةً، ويُعد استهزاءً بالقوانين الدولية وممثليها، فهو تبنِّي الاحتلال لعملية الاغتيال، فرغم أن المتحدث باسم رئيس وزراء الاحتلال صرَّح للإعلام الأجنبي بأن "إسرائيل لا تتحمل مسؤولية اغتيال العاروري"، فإن إذاعة الجيش الإسرائيلي نقلت أن "إسرائيل اغتالت صالح العاروري"، بينما هنَّأ العضو بلجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست (البرلمان)، داني دانون، الأجهزةَ الأمنية للاحتلال باغتيالها للعاروري.
هذه الفجاجة في تبنِّي الاغتيال دون أي خجل أو خوف من محاسبة ليست شيئاً جديداً على الاحتلال، فله تاريخ حافل بالاغتيالات، التي انتهك فيها سيادةَ أكثر من دولة أخرى، هذا بخلاف التهديد بالاغتيالات دائماً لكل أعدائها، فعلى سبيل المثال، منذ بدء عملية "طوفان الأقصى" توعَّد مسؤولون إسرائيليون باغتيال قادة "حماس"، في دول بينها لبنان وقطر، كل هذه البلطجة إذا كانت ستؤكد على شيء فإنها تؤكد أن القانون الدولي لا يطبق على الدول الكبرى وحلفائها.
إن ما يحكم العلاقات بين الدول اليوم ليس ما جاء في ميثاق الأمم المتحدة، بل هو قانون آخر أشبه بقانون ساكسونيا، حيث ينفذ العقاب على الطرف الأضعف دون الطرف الأقوى الذي يكتفي بمحاسبة ظله، وهو ما يتمثل في زمننا هذا بعملية الشجب والتنديد التي تقوم بها المنظمات الدولية، كلما قامت إحدى الدول العظمى بانتهاك مبادئ القانون الدولي، بينما تفرض العقوبات المؤثرة، الاقتصادية منها والسياسية، على الدول الضعيفة.
الاغتيالات الدولية بدون عقاب آفة تهدد الاستقرار الدولي
ارتفعت في السنوات الأخيرة وتيرة الاغتيالات الدولية، خصوصاً عبر الطائرات بدون طيار، فقد سبق اغتيال العاروري غيره، بالطريقة نفسها والذريعة عينها، بل حتى بالجاني نفسه، وهو الأمر الذي حذرت منه المحققة الأممية أنيس كالامار، حيث حذرت المحققة الأممية من ارتفاع نسبة استخدام "الدرونات" في عمليات الاغتيال والتصفية، ودعت إلى ضرورة تقنين استخدام "الدرونات الحربية"، خصوصاً في غير أوقات الحروب، وكذلك دعت كالامار إلى ضرورة وضع القوانين لتحليق هذا النوع من المسيرات حتى نتفادى اختراق الحدود الجوية لدول ذات سيادة.
لكن الأمر الأكثر خطورة من استعمال الطائرات بدون طيار في عمليات الاغتيال هو رفض الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، فتح تحقيق في أي عملية اغتيال تقام خارج أراضيها، وتكون هي طرفاً فيها، أو عند ارتكابها من طرف أحد حلفائها، كما هو الحال حالياً عند اغتيال إسرائيل صالح العاروري، بل قالت الولايات المتحدة على لسان المتحدث الرسمي باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي، إن "العاروري كان مصنفاً إرهابياً، ولا ينبغي لأحد أن يبكي على رحيله"، وهو ما يؤكد تبنّي الولايات المتحدة ومِن خلفها الغرب مبدأ قانون الغاب، حيث يحق للقوي أن يأكل الضعيف دون محاسبة، بينما يُحاسب الطرف الضعيف بأقصى العقوبات عند ارتكابه أبسط خطأ.
إن تاريخ إسرائيل وأمريكا مليء بهذا النوع من الاغتيالات والأعمال الإرهابية، ولم تتم محاسبتهما أو حتى حكم عليهما بتعويض الضحايا في أي عملية من هذه العمليات، عكس ما يحدث عنده تورط أي دولة أخرى غير حليفة لهما في مثل هذه العمليات، ونستحضر هنا على سبيل المثال "قضية لوكيربي"، التي اتهمت أمريكا وبريطانيا ليبيا أيام القذافي بتدبيرها، ما أحدث أزمةً بين الطرفين، قادت لتسليم المتهمَيْن، ودفعت ليبيا بسببها تعويضات كبيرة لضحايا الطائرة المنكوبة، وكذلك يتذكر الجميع التعويضات التي فُرضت على ألمانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لليهود، عمّا ارتكبه بحقهم النظام النازي، الذي كان يحكم ألمانيا إبان الحرب العالمية الثانية.
في الختام، إن اغتيال البطل صالح العاروري يدق ناقوس الخطر لنظام وقانون عالمي يتهاوى، إذ يجب وضع حد لقانون ساكسونيا الدولي، ومنع تلك الممارسات من قِبل المؤسسات الدولية، للمحافظة على الأمن العالمي، من خلال احترام القانون الدولي، وتفعيل مبادئه، وتقوية آليات تنفيذه، وعلى رأسها محكمة العدل الدولية، وكذلك المحكمة الجنائية الدولية التي انسحبت كل من أمريكا وإسرائيل منها، لكي لا تخضعا لأية عقوبات، كما يجب مراجعة النظام الأساسي لمنظمة الأمم المتحدة، وخاصة النقطة التي تتعلق بمجلس الأمن، وخصوصاً نقطة العضوية الدائمة، وكذلك حق الفيتو، لَربما تجد العدالة مكاناً لها في عالمنا يوماً ما.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.