من المفارقات الفلسطينية أن الأجنحة العسكرية للفصائل الرئيسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، كالجبهتين الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين، وحركة "فتح"، وغيرها من فصائل منضوية تحت مظلة المنظمة، تخوض جنباً إلى جنب معركة مقاومة العدوان الإسرائيلي الفاشي على غزة. بل إن بعض تلك الفصائل لديه أسرى من جنود الاحتلال. وفي مقابل ذلك الجهد الميداني يبدو أن الحالة الفلسطينية، في الداخل وفي الشتات، تفتقد منظمة التحرير، كعنوان حركة تحرر وطني، بكل ما يحمله ذلك من مسؤوليات جسام ملقاة على من يُفترض به الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
نعم الساحة باتت تكشف حضوراً طاغياً لحركة "حماس" وتأييداً ملحوظاً شعبياً، حتى على المستوى العربي الشعبي، بفعل دورها في المقاومة، ذلك يبدو ليس بمعزل عن ناتج تحويل منظمة التحرير إلى إحدى أذرع السلطة في رام الله (والعكس كان يفترض أن يكون). وهو ما بات ملموساً على مدار أكثر من ثلاثة أشهر على بدء العدوان الإسرائيلي، الذي يتجاوز غزة نحو الضفة والقدس والشتات، وحتى إلى عرب 48 في انتهازية الأحزاب الصهيونية-الدينية للحرب لأجل تطبيق ما في الأدراج من مخططات.
صحيح أنه من الظلم بمكان أن يُقارن أبناء منظمة التحرير، أو من كبر على وقع نضالاتها، بين وقائع اليوم وفترة القيادات التاريخية فيها؛ أمثال ياسر عرفات (أبو عمار) وأبو جهاد خليل الوزير وصلاح خلف أبو إياد، وسلسلة طويلة من القيادات الفتحاوية، الذين رحلوا اغتيالاً واستُشهدوا وهم على رأس عملهم، وجورج حبش وأبو علي مصطفى ونايف حواتمة يساراً وقومياً عربياً، وآخرون كثر في التيارات المتعددة.
ومع أن المقارنة تبدو قاسية، إلا أنه ثمة خيبة مكتومة بين كثيرين. فالدور السياسي لمنظمة التحرير، ولنقل اللجنة التنفيذية فيها، بدا غائباً/مغيباً، لمصلحة جدل السلطة ودورها منذ اتفاق أوسلو 1993، الذي بالمناسبة عبر يسار وقومي الفصائل عن رفضهم له وتعايشهم معه. فهيمنت مفاهيم الخلط بين سلطة رام الله والمنظمة أنتجت إرباكا أبعد من الفترة الممتدة لـ90 يوماً.
لا يمكن في السياق إنكار أن سفراء فلسطينيين، وبينهم حسام زملط ومانويل حساسيان أوروبيا، ووليد الموقت في أمريكا اللاتينية، مع سفراء سابقين مثل السفير السابق في البرازيل فوزي المشني، وغيرهم الكثير، وكوادر أبقت على حيوية التحرك حتى مع خبو العمل المركزي والجمعي للمنظمة على مستويات السياسات الدبلوماسية والإعلامية.
المشكلة ليست فقط في أن ملايين الفلسطينيين الذين يعتبرون منظمة التحرير ممثلهم الشرعي، وما زالوا يؤيدونها باعتبارها منجزاً وطنياً تاريخياً، يسألون باحثين عن منظمتهم، لكن في أن هذه المنظمة تبدو وكأنها لا تمارس دورها كحركة تحرر وطني، بكل ما يستلزمه ذلك من نضال. فحركة التحرر الوطني، التي تعيش على أطلال خديعة أوسلو على مدار 30 سنة تعيش على ما يشبه فلكلورية الشعارات، دونما التوقف ملياً لمراجعة عقود من السياسات التي أثبتت عقمها، خاصة تلك التي فرضت قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي ما يشبه اعتدالاً تحت الطلب وبما لا يليق بدور حركة التحرر المتسلحة بحق تاريخي وعدالة قضيتها، ومنح القوانين الدولية لها حق مقاومة الاحتلال بكل السبل.
من بين أفدح خسائر ذلك التاريخ المرتبط بفترة أوسلو وما بعدها، وتحت سمع ومرأى المنظمة، ذلك التغلغل الصهيوني في القارتين الأفريقية والأمريكية اللاتينية، وحصر العلاقة بين دول كثيرة والفلسطينيين ونضالهم من خلال قنوات سلطة رام الله، التي يستهزئ أصلاً الصهيوني والأمريكي بترهّلها وبتسميتها كسلطة حكم ذاتي محدود. وعلى مستوى العلاقة بالعالم العربي فما كان وضع الشعب الفلسطيني أسوأ مما أنتجته أوسلو، لتبرير الهجمة التطبيعية، بينما حين كانت المنظمة قوية، وتخوض نضالاً ومواجهة جدية مع المشروع الصهيوني لم يكن للخسائر أن تكون بما صارت عليه في العقد الأخير. أضف إلى ذلك شبه قبول من سلطة رام الله بحصر علاقة أوروبا بالقضية الفلسطينية من خلالها حصراً، بل وجعل اللاجئين الفلسطينيين في الشتات مجرد جاليات ومغتربين، مع كثير من الإشارات التي تحمل ما يشبه "تسوية" بعيداً عن حقوقهم التي يضمنها القرار 194.
(2) تراخٍ مقابل التطرف التلمودي-الصهيوني
قائمة طويلة لا يمكن سوقها في هذه العجالة يعرفها الفلسطينيون أفراداً ومجموعات، ويشمل ذلك المواقف المخزية من مئات آلاف من أبناء شعبهم في مخيمات سورية، الذين بالتأكيد لم يمارس بحقهم التجويع من أجل التهجير وتدمير حاضنة فصائل العمل الوطني، مخيم اليرموك من قبل مجهولين، بل من نظام دمشق الذي جرت مهادنته رغم الكثير من التاريخ الدموي مع الفلسطينيين في لبنان وبحق فصائل المنظمة بنفسها.
وللإشارة فقط، فبينما يتوسع الخطاب الديني الصهيوني، وليس فقط عبر إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريش، انحسر لسنوات مضت الخطاب المقابل من منظمة التحرير الفلسطينية. ويشمل ذلك السكوت حتى عن ملاحقة السلطة في رام الله أمنياً لكل من دعا إلى مواجهة اعتداءات المستعمرين في مستوطنات الضفة، واستباحة واضحة في القدس. يقرأ الصهاينة بوضوح خطاب رأس السلطة "احمونا" أو طلب "مظاهرات سلمية" من شعبه، كمؤشرات على ضعف وليس قوة. وبالتالي، غياب منظمة التحرير الفلسطينية وخطابها المستند إلى فهم عميق لدور حركة التحرر الوطني لا يضعف فقط شعبية فصائل المنظمة، بل يضعف مواقف الفلسطينيين وحصرهم في تمثيل السلطة التي لا ينظر لها من الاحتلال الإسرائيلي إلا من خلال منفعتها لتنسيق أمني وتخفيف أثمان الاحتلال، الذي هرول نحو مشاريع معلنة منذ سنوات لإنهاء وتصفية القضية الفلسطينية عبر الزج بمئات آلاف المستوطنين وتسليحهم.
فمواجهة جماعات الإرهاب الصهيوني، التي وزع عليها بن غفير أمام العالم أجمع أسلحة، لم تجر بما يستحقه هؤلاء الإرهابيون؛ إذ رغم أن القانون الدولي، بل ومواقف غربية كثيرة معارضة لتك الجماعات، لم تبرز المنظمة على مستوى المبادرة إلى تبوؤ الدور على الأرض، ولا على مستوى الخطاب السياسي-الدبلوماسي والإعلامي. فمن حق الشعب الواقع تحت الاحتلال مقاومة الاحتلال لا التعايش بشروط محسنة معه، حتى وصل الأمر إلى جعل الضفة الغربية عبارة عن كانتونات غير متصلة.
كان ولا يزال أمام منظمة التحرير الفلسطينية أن تقلب الطاولة على الجميع، وتتوجه لشعبها بنية صادقة، إذا ما تعلق الأمر بمواجهة حقيقية مع المحتل، وتمويل المنظمة، بدل الخضوع للشروط التي من المعيب أصلاً ذكرها، بتفاصيل لا تمت للتحرر الوطني. فالمراهنة على "العملية السلمية"، والكلام الأمريكي والغربي المعسول، هي مراهنة تخدير ليس أكثر، خصوصاً حين يذهب الأمريكي بكل وقاحة للحديث عن حل الدولتين، و"طموح الفلسطينيين"، بعد أكثر من 30 سنة من قضم الأرض والعودة إلى تسميات توراتية للأراضي المحتلة، وتفريغ ذلك الحل من مضامينه.
في الختام؛ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي لا يخص حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، بمشاركة الأذرع العسكرية لفصائل المنظمة التي تجد حرية عمل عسكري في غزة أكثر مما هو قائم في ظل سلطة رام الله، وتلك حقيقة يعرفها الكثيرون، بل هو فعل استند إلى عوامل متراكمة كثيرة، ومن بينها ما ذُكر آنفا، إلى جانب أخرى كثيرة.
نعم شعبية المقاومة، سواء كنت مؤيداً فكرياً لهذا التيار أو ذاك، ليس بالأمر الذي يستطيع أحد لجمه، ولا حتى كل الغرب، وبالتالي لو أن منظمة التحرير الفلسطينية راكمت وواصلت الكفاح المسلح، بكل ما يعنيه ذلك في الجوهر التحرري، وبخطاب يواجه التطرف الإرهابي الذي يمثله بنيامين نتنياهو وبن غفير وسموتريتش ومعسكر الصهيونية الدينية المنتفخ بعد 30 سنة على أوسلو، ومستنداً إلى مشروعية أممية تدرك أن الفلسطينيين صبروا طويلاً، لكانت اليوم في مقدمة المواجهة، ولحصدت مجدداً ألق ما كان، أو خففت عن جمهورها الذي يشعر بخيبة أمل، خصوصاً من أصحاب شعار "الطلقة الأولى"، أي حركة "فتح" تحديداً وجناح "العاصفة" العسكري.
بالطبع لا شيء مستحيلاً، وبدل الانشغال بمحاكمة ما إذا كان السابع من أكتوبر صحيحاً، تحتاج الساحة الفلسطينية لأكثر من شعارات الوحدة، ليس إلى أن تقلد العدو في هرولته نحو التوحد والقفز عن الأيديولوجيات، بل لأن وحدة المصير والتحديات الضخمة التي تواجه 14 مليون فلسطيني أولى لأن تكون حركة تحرره الوطني تتداعى ذاتياً لوقفة جادة مع نفسها وأمام شعبها والتاريخ الذي يسجل ركاكة وارتباك المشهد، الذي لم يسبق أن وصلت إليه منظمة التحرير الفلسطينية، إلا حين سارت بقدميها نحو الخلط المتعمد بين المنظمة والسلطة، والأخيرة ليست سوى نتاج فخ التعاطي مع عدو احتلالي-إحلالي بنوايا طيبة، بينما ما يستحقه هو المقاومة وليس غيرها، بكافة السبل والوسائل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.