إنّ الطوفان الذي جعلنا نظن أنه موجّه ضد الكيان المُحتل قد سرى واكتسح على الوعي الجماعي للبشرية، وجعله رأساً على عقب.
لحظة دهشة عالمية طاغية حبست أنفاس الكون لأكثر من شهرين حاول هذا السجين البائس في قعر ظلمات أنفسنا في خضمّ ذلك أن يتحرّك، أن يفعل أيّ شيء إزاء المشهد المرعب الذي يشاهده، ولكنّه عبثاً حاول، فكّر، وأعمل عقله بدافع من فطرته السليمة من براءته الأولى، من نغرة إنسانية دفينة في جوفه أن يُغيّر شيئاً في هذه المأساة الحيّة المُشاهَدة بأيّ شيء متاح، وأخذنا نَتحايل على هذا الواقع الذي جمّدته الإرادة وقوّضته التطلّعات.
تلك هي لحظة الدهشة التي أصابت الوعي صفعة على وجهه كي يفيق من سباته العميق، كي يفيق من جموده وتصخّره وتصحّره.
إنّ اللحظة الراهنة دون أدنى شك فارقة في عمر العالم الحديث، بل يسعنا أن نقول ثورة فارقة بكل مقاييسها المضطرمة المتطورة؛ لأنها حملت معها بذور التغيير وإرهاصاته وثقله واستطاعت الإطاحة بهياكل المعتقدات للعهد البائد وأن تشعل في أوردتنا جذوة القيم، وأن تُسقينا المفاهيم من مصدرها الخام، وهي الفطرة بعد سنوات طوال بور وعجاف من تراكمات جيلية متيبّسة تلتها ولادة عسيرة ضنك.
إنّها لحظة وجودية استثنائية في التاريخ المعاصر، استطاعت بدورها إحداث رجّة حقيقية في المفاهيم الغربية، وإصابة كبرياء المُنغمسين فيه اختزلت مسيرة طويلة وجهداً حثيثاً للفكر والإنسانيات في العمل على توجيه الوعي العربي إلى المسار الصحيح نحو بناء العقلية المطلوبة والمنشودة للإنسان المعاصر.
إن أولى الثغرات التي تم اكتشافها في هذا الجسد المريض، كان ذلك على جثة 22 ألف ضحية وعلى أنقاض مدد هائل من الخراب والدمار، لا يسعه الوصف حقه، ألا يسعنا ذلك أن نخجل فقط من أنفسنا؟
إن هذه الثغرة والهوة البائسة التي لا تفتأ تطيح بنا دون وعي منّا وترهقنا تعثّراً، تتمثّل في غياب الدور التاريخي والحساس والدقيق للعلوم الإنسانية والحركة الفكرية في الوطن العربي.
تلك الحركة الفكرية الحيّة التي يقف عملها على النهوض بقضايا الأمّة بعد فهم الواقع العربي وتشخيصه، ثم ابتكار الإصلاحات والوسائل العلاجية المناسبة والكفيلة بتغيير الواقع نحو الأفضل، وبإمكانها أن تؤثّر في البيئة الثقافية والاقتصادية والسياسية والمعرفية وفق دراسة منهجية مضبوطة، واعتماد الفكر النقدي عبر ممارسة الشك المنهجي الأكاديمي.
إنّ إنتاج العقلية المطلوبة هو على العكس التقديرات الفردية عملية ليست بالهيّنة؛ لأنّ كل ما نمارسه من تفكير لا يتعدى كونه محض أراء انطباعية لا ترتقي لمنزلة الأفكار العلمية التي من شأنها فقط أن تنتج العقلية والوعي المطلوب للإنسان العربي.
حركة فكرية باستطاعتها صدّ الغزو الفكري للقوى الخارجية وغريزتها الداخلية لابتلاع الآخر النظير، وبمقدورها أن تسائل تقدّم البلدان "المتحضرة" ونقد الأفكار الغربية وفكرة الحداثة نفسها المفروضة فرضاً على العقل الجمعي، دون أن يقابل ذلك إرادة عامة رافضة لهذه التبعية التي أوقعت بنا في الأخير.
حركة فكرية تعلن قدرتها على تأسيس يقين قوامه التفكير العربي الخالص، لا يستدعي وجود أي آخر يتقوّم به الوجود العربي، ودون أن يكون أي طرف آخر وصيّاً عليه أو نظاماً يمارس قيادته على عقولنا.
في هذه الحالة فقط لن ترى الملتحي مجرد إرهابي؛ لأن الصورة المروَّج لها من قِبل العالم الخارجي سعت إلى اختزاله في حدود الرمزية والدلالية المناسبة لها، وهكذا لن تتكون غالبية مبرمجة ومقولبة، تحيا في حدود عالمها الخاص وتحوي عقلاً وقيماً وأفكاراً لعالم آخر.
حركة فكرية بمقدورها أن تُثوّر أرض الأفكار السائدة وتطرح أفكاراً جديدة تتلاءم وتتناسب وتكوّن كياناً عربياً مستقلاً قِوامه وحدة مركّبة خلاّقة متنوّعة، تتجاوز مخاوف المواطن العربي وارتباكه إزاء فكرة الوحدة، حركة نخبوية نشيطة أشبه بالحركات النضالية التي برزت في عهد الاحتلال الفرنسي والإنجليزي في القرن الماضي، والتي استطاعت تطوير نشاطها من النشاط الثقافي المؤثر إلى النضال السياسي المغيّر لموازين الصراع وتوجيه مسار القضية نحو سياق التحرير.
في الأخير، نتمنّى أن تكون هذه الحرب، لا ليست حرباً؛ لأنها في هذه الحالة ستكون بين جبهتَي قتال، بل الأصح هذا الدمار والخراب الهائل والإبادة الجماعية، وما تتعرض له غزة، قد اهتزّ لها الضمير العربي والعالمي وكان بمثابة صحوة ومساءلة للوجود العربي كما اهتزّ بعد الحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها 50 مليون قتيل، ما أدّی إلى الشك في القيم الغربية التي لا طالما دعا إليها الغرب وتمخض ذلك في ظهور تيارات فكرية وفنية كالعبثية والوجودية والفريدية وغيرها.
وفي هذه الفسحة الكتابية يسعنا أن نذكر أنه إذا كانت الدول لم تقاطع الاحتلال الإسرائيلي الغاصب، فنحن الشعوب باستطاعتنا المقاطعة والاستغناء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.