إن ما نشهده اليوم من احتدام المعركة بين فصائل المقاومة في غزة وجنود الاحتلال يشكل مرحلة تحولية في موازين القوى العالمية، خاصة أن أسطورة "الجيش الذي لا يقهر" باتت مجرد سراب محض بعد أن داستها أقدام جنود المقاومة. تصنع مختلف الفصائل الفلسطينية اليوم في غزة بطولات وملاحم ليس من المستبعد أن تكون بمثابة المسمار الأخير في نعش الاحتلال الإسرائيلي، إذ إن مجمع الخسائر المادية والبشرية التي تكبدها جيش الاحتلال قد هزت الأسس المتينة لثقة واشنطن بمدى قدرة هذا الجيش على تحقيق الأهداف الطموحة التي حددتها حكومة نتنياهو عندما شنت عدوانها وحصارها على غزة.
موقف اليوم هو مستقبل الغد.. قانون دولي ذو سيادة أو قانون الغاب؟
في تصريح رسمي حديث لها، ادعت وزارة الخارجية الأمريكية أنها لم تجد أي دليل على أن "إسرائيل" تقتل المدنيين عمداً، وهو الموقف المتوقع من دولة راعية للإرهاب الإسرائيلي. لكن هذا التصريح، بقدر ما يحتويه من مكر سياسي فهو يشكل نقطة تحول في الموقف الأمريكي من الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني على مرأى ومسمع من "العالم الحر"، إذ إن موقف الخارجية الأمريكية من الإبادة والحصار على غزة شهد تحولات بإمكانها أن تورطها في مساءلات قانونية لا عهد للعالم بها، خاصة في ضوء حشد الجهود الشعبية والتنظيمية لإسقاط عهد الإفلات من العقاب. لكي نفهم هذا العدوان الذي شنه الكيان الصهيوني على غزة ونتمكن من دراسة السيناريوهات المحتملة، لابد إذاً أن نتناول الموضوع في سياق قانوني وآخر عسكري، إضافة إلى التداعيات الاجتماعية لهذه الإبادة على العالم العربي.
يقف قادة الغرب اليوم حائرين أمام انقلاب الرأي العام الذي بات يصب لصالح القضية الفلسطينية، بعد أن أخفقت عملية التعتيم الإعلامية في حجب جرائم الاحتلال عن المواطن الغربي، لكن السؤال الذي يراود الأغلبية الساحقة يتمحور حول مستقبل هذه النخبة السياسية الداعمة لإسرائيل بعد أن فقدت الدعم الجماهيري الذي كان يضفي طابع الديمقراطية والمشروعية على دعمها الصريح للفاشية الصهيونية، كون ذلك رأياً شعبياً سائداً. هل ستنتصر فكرة "حكم الأغلبية" للقضية الفلسطينية أم أن النخبة السياسية ستواظب على دعمها اللامشروط للمستوطنة الأوروبية كونها امتداداً جيوسياسياً لقارتها الأم، حيث تبلور مشروع إحداثها لأول مرة؟ الحقيقة أن هذا السؤال لا يكاد يملك إجابته أحد؛ يمكننا أن نقول إن القرار لم يعد يتركز في يد النخبة فحسب، فللكتل الشعبية التي أعلنت رفضها لسياسة حكوماتها الداعمة للاحتلال أيضاً وجهة نظر، خاصة بعد أن كسبت لنفسها صوتاً بعد كسرها لعقود من الصمت عبر مظاهرات مليونية قد تُرْجِمَتْ لحملات مقاطعة ومنشورات توعوية عززت مكانة الحشد الشعبي ودور المجتمع المدني في مواجهة الإعلام المدفوع. إذاً فإن القرار الذي ستتخذه هذه النخب السياسية لن يقل أهمية عن القرار الذي ستتخذه شعوب العالم، فأما إذا اختارت أوروبا لنفسها قمع الفئة الديموغرافية المصوتة والداعمة لفلسطين فإنها ستواجه موجة من الأناركية والفوضى العامة التي قد تطيح بالنظام الرأسمالي وآلة القتل وكل من يدعمها.
بينما أكد خبراء الأمم المتحدة خلال مؤتمر جنيف أن الأوضاع في غزة تزداد سوءاً مع اشتداد الحصار والقصف على القطاع، وتزايد التحريض على الإبادة الجماعية، والنية المعلنة من طرف جيش الاحتلال وأعضاء الكنيست "لتدمير الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال" والدعوة لـ"نكبة ثانية". اكتفى مبعوث الكيان الصهيوني في مجلس الأمن الدولي بارتداء نجمة سداسية صفراء ليتهم حماس وكل من يعارض قتل الشعب الفلسطيني بمعاداة السامية دون أن يقدم أدلة مضادة على ما وفره خبراء الأمم المتحدة من حجج وإثباتات. رغم تواطؤ منظمة الأمم المتحدة التاريخي مع محور الإمبريالية، إلا أن إسقاط مشروعيتها وتغييب دورها من أجل حماية الاحتلال الإسرائيلي من عواقب جرائمه سينتج عنه ولا بد تغيير جذري في المجتمعات الأوروبية التي بدأت بالفعل تعود بخطوات جريئة إلى أحضان ماضيها الفاشي. ومع سقوط قلعة القيم المفبركة التي أمضى من قاموا بتشييدها عقوداً من الزمن يحدثوننا عنها بفوقية، فإننا ننتقل من مرحلة قانون دولي مزدوج المعايير إلى مرحلة حَلِّ الهيمنة الثقافية الغربية على صعيد مجتمعاتنا العربية والمسلمة.
مصير "الدولة الفاشلة" لا يقتصر فقط على "عجز اقتصادي"
إن ما يحدث اليوم في غزة بدعم وتمويل أمريكي هو دليل على فشل مشروع الكيان الصهيوني في أن يبرر وجوده أخلاقياً، أو حتى أن يثبت لحلفائه الأكثر تفانياً في الدفاع عنه أنه أصبح كياناً مستقلاً بذاته، وهو لابد له أن يواجه مصيره المرتبط بفشله الأخلاقي على صعيد عالمي. بعد أن كان مشروعاً مدراً للدخل على داعميه، أصبح مخطط الدولة القومية اليهودية على أرض فلسطين مضيعة للميزانية الأمريكية وللشركات العالمية التي باتت عاجزة عن إعطاء مبررات أخلاقية لدعمها المخل لإبادة الشعب الفلسطيني، وأصبحت تواجه التأثير الاقتصادي لحملات المقاطعة.
منذ أن اكتسب مواطن "العالم الثالث" وعياً سياسياً، عمدت دول الغرب لإشباع عقله بفكرة الدولة التي يبنى وجودها أساساً على النظام الرأسمالي، وعلى ربط نجاح مشروع الدولة بمدى التزامها بهذا البند الضمني الذي شملته جل وثائق استقلالها الرمزي، وأكسبتها بذلك حرية كاذبة. وها هو ذلك المواطن البسيط المغلوب على أمره يكتشف ولأول مرة أن فشل الدولة لا علاقة له بكل تلك الشروط التقييمية الوضعية، فها هو الاحتلال الإسرائيلي الذي كان بمثابة تجسيد ملموس للقيم الرأسمالية يضمحل حجمه بسبب كونه -ومنذ نشأته- مشروعاً استيطانياً لا يملك مشروعية أخلاقية. تروج دولة الاحتلال لكذبة كونها "الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، تماماً كما تزعم حليفتها التاريخية، الولايات المتحدة الأمريكية، بأن غزوها للعراق ودعمها للحرب على اليمن وسوريا يهدف أساساً إلى نشر قيمة الديمقراطية التي تفتقدها دول الجنوب بشكل ملح. وهنا يطرح السؤال نفسه: لماذا تصر الولايات المتحدة الأمريكية على عولمة قيم من الواضح أنها ليس عالمية؟ يمكننا القول إن الولايات المتحدة قد وجدت في فكرة "نشر الديمقراطية" حبلاً متيناً قد يدلها على عذر أو تبرير أخلاقي لمساعيها الإمبريالية، وها هي دولة الاحتلال تسير على خطاها وهي تبرر إبادة الفلسطينيين بحجة "محاربة الإرهاب"، وهي لفظ اخترعه الرئيس الأمريكي ومجرم الحرب الطليق جورج بوش لكي يتمكن من شن حرب ضروس على كل دولة في الشرق الأوسط تتحدى إرادة آلة القتل.
لا جدل في أن الأنظمة الفاشية لا تصمد في عالم المتغيرات، ولكي نستوعب هذا السقوط البطيء للنظام الإسرائيلي الفاشي لابد لنا أن نفهم أولاً كيف تصنع الأنظمة الفاشية وكيف تحاول الحفاظ على استمراريتها. تتميز الحركات الفاشية بنزعة قومية تسعى إلى تكريس قيم الطبقية الاجتماعية والفوقية العرقية؛ ما يؤدي بالضرورة إلى خلق أدوات عنف تشرعها الدولة الفاشية لنفسها من أجل الحفاظ على الوضع الراهن للنخبة أو للطبقة ذات الامتيازات على حساب الطبقة المهمشة. لكي تضمن الدولة الفاشية استمراريتها يتوجب عليها تصعيد عنفها إلى أقصى درجة ممكنة، وفي كثير من الأحيان يمس هذا العنف بالمستوطن ويقض مضجعه بعد أن يدرك متأخراً أنه ليس سوى أداة عنف يشهرها نخبة دولة الاحتلال الفاشية في وجه صاحب الأرض. إن هجرة نصف مليون مستوطن عقب أحداث السابع من أكتوبر، وتخلي عدد منهم عن جنسياتهم وانتمائهم لدولة الاحتلال هي أولى مؤشرات انهيار الاحتلال الإسرائيلي وما يمثله من فوقية إثنية واحتلال استيطاني. ليس هذا الانقسام السياسي والاجتماعي الذي يعيشه المستوطنون سوى واحد من أعراض احتضار الكيان الفاشي الذي دخل مرحلة حصد العنف الذي ما فتئ يزرعه.
دولة الاحتلال والأمن القومي العربي
عندما نتحدث عن "دولة" الاحتلال الإسرائيلي فإننا نتحدث عن كيان غربي بامتياز تبلورت فكرته خلال فترة حرجة للحركات الاستعمارية الأوروبية، ورأى النور في خضم سقوط تدريجي للإمبريالية بصورتها الكلاسيكية التي تشمل أساساً حضوراً عسكرياً وسياسة توسعية. عندما أعلنت القوى العظمى بداية عهد جديد يتضمن فض الاستعمار وتفكك الإمبراطوريات التي تأسست قبل الحرب العالمية الأولى، فإن ذلك لم يكن في حقيقة الأمر سوى إعلان خجول عن انسحاب عسكري نتيجة الضغط المتزايد الذي شكلته حركات المقاومة المسلحة في دول الجنوب.
قبل السابع من أكتوبر بأسابيع وأشهر عديدة، كادت الرئاسة الأمريكية أن تتنفس الصعداء أخيراً بعد أن بذل جو بايدن وأعوانه جل مجهوداتهم دون ادخار ليتمكنوا من وضع نهاية للصراع "العربي الإسرائيلي" عبر مفاوضات كان من المتوقع أن يتمخض عنها تطبيع علني بين المملكة السعودية ودولة الاحتلال الإسرائيلي. ثم جاء طوفان الأقصى ليبعثر أوراق الإمبراطورية ويدفعها إلى صب جل اهتمامها نحو مستوطنتها وموطئ قدمها في جهة الشرق الأوسط على حساب نزاعات أخرى في القارتين الأوروبية والآسيوية.
وفي نفس السياق، يزعم البعض أن المصلحة الوطنية لمختلف الدول العربية هي مصالح فردية وليست مصالح مشتركة، ولكن في حقيقة الأمر فإن المساعي الإمبريالية الأمريكية ما زالت تثبت عكس ذلك وتشير بعدوانها المستمر على كل دولة عربية أقدمت على السير صوب طريق التقدم العسكري إلى أن مصير الأمن القومي العربي هو مصير مشترك. وجود الاحتلال الإسرائيلي على أرض فلسطين يشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي العربي، والدليل على ذلك أن دولة الاحتلال تعتبر أن امتلاكها لأسلحة تفوق عدداً جميع ما تملكه مختلف الدول العربية من أسلحة، وتتفوق عليها نوعيةً، هو الضمان الأساسي لأمنها القومي. إذا كانت "إسرائيل" نفسها تجاهر بعدائها للعرب وتتعامل معهم بمبدأ القوة والحذر، فلماذا تصر الأنظمة العربية المطبعة على أن القضية الفلسطينية هي عبارة عن صراع حدود، وتسوِّق لحل الدولتين الذي يخالف مطالب الشعب الفلسطيني؟ ولماذا يزعم بعض العرب الذين نصبوا أنفسهم زعماء لتيارات وطنية أن التطبيع يعتبر خطوة دبلوماسية لضمان مصالحهم الخاصة؟
الحقيقة أن السياسي أو/و المثقف العربي المحنك يحسب أن مسالمته للاحتلال وعمالته لأمريكا ستجعله ضمن القلة القليلة من الناجين من سياستها الإمبريالية البراغماتية التي تضع المصالح الاقتصادية والعسكرية فوق الأرواح البشرية، ولكن عمالة هذا السياسي لا تمنحه الحصانة التي يطمح لها حين موالاته لمحور الإمبريالية. هاته الشريحة الاجتماعية هي نفسها تلك التي تحدث عندها فرانز فانون في كتابه "معذبو الأرض" حيث قال: "إن المثقف الذي تبع الاستعماري على مستوى العموميات المجردة يريد أن يعيش المستعمِر والمستعمَر في سلام في عالم جديد، ولكن الأمر الذي يعمى عنه، لأن الروح الاستعمارية قد تغلغلت فيه مع طرائقها في التفكير، هو أن المستعمر لن يهمه البقاء ولا التعايش السلمي متى زال الوضع الاستعماري". (فانون، 1961).
في حين يحاول كل من السياسي المطبع والمثقف المأجور أن يقنعنا بضرورة التعايش مع المحتل والقبول بتنازلات مُذِلَّة، يذكرنا تاريخ المقاومة المسلحة في الجزائر وفيتنام بأن المساومة مع المحتل لا يمكنها أن تفضي إلى حرية حقة، وأن نار السلاح هي اللغة الوحيدة التي يفهمها المستعمِر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.