منذ بداية الحرب، أي مع انطلاق عملية طوفان الأقصى، حافظت الجبهة الجنوبية اللبنانيّة، نوعاً ما، على قواعدها الاشتباكية التي ترسخت، منذ حرب 2006، إلا أنها، رغم ذلك، تتطور وتتغير بين الحين والآخر، وذلك استناداً إلى الواقع والضغط العسكري القائمين في غزة أو في الضفة الغربية، ولكن ما حصل مع اغتيال القيادي البارز في حركة حماس الشيخ صالح العاروري، بدّل الأمور؛ وأصبحت القواعد والمعطيات جاهزة أكثر، لتأخذ حيزاً أوسع مما كانت عليه سابقاً، وفقاً لتحليلات الكثيرين من الخبراء الأمنيين والعسكريين والسياسيين على حدٍ سواء، الأكيد هو أن تلك القواعد لم تعد ثابتة، وسوف تتسع رقعتها وترتبط بشروطٍ ليست متعلقة بلبنان وإسرائيل حصراً، إنما باللاعب الأكبر، أي الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تريد توسيع رقعة الحرب، وتسعى إلى تجنيب لبنان هذه الكأس للحفاظ على مصالحها، ولكن الجانب الإسرائيلي، في المقابل، يسعى إلى توريط الأمريكي بشكلٍ مباشر في الحرب، ويسعى إلى توسيع رقعتها، لذلك، نعتبر أنّ هذه العملية نوعية؛ ولكنها لن تغير كثيراً في الحرب القائمة لأسباب عدّة:
أولاً: لأن الاستهداف لم يكن لأحد قياديي حزب الله. وثانياً: أنّ حزب الله يدرك تماماً أن إسرائيل تسعى إلى استدراجه واستدراج لبنان كذلك للدخول في الحرب بشكلٍ أكبر وأوسع، ما يستدعي دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب، وبالتالي المواجهة مع إيران مباشرةً، وهذا ما لا تريده إيران ولا الولايات المتحدة الأمريكية. أما ثالثاً: فلقد أدى استهداف مرقد قاسم سليماني إلى مقتل قرابة 100 مواطن إيراني، ثم إن توقيت هذا التفجير مرتبط تماماً بالحرب القائمة في فلسطين، وكل الأصابع تشير إلى تورط إسرائيل في هذا التفجير الذي تسعى، من خلاله، إلى جر العالم إلى الدخول في تلك الحرب، ولكن ماذا عن عملية الاغتيال؟ وكيف نقرؤها؟
قبل الخوض في عملية التحليل، لا بد من تسليط الضوء على قضية مركزية وحساسة مفادها أن لبنان أصبح في وسط الحرب، ولم يعد طرفاً هامشياً، فالأدلة كثيرة، منها تزايد عدد الشهداء الذين سقطوا في الجنوب والعمليات العسكرية التي تحصل كل يوم، والقصف الذي تتعرض له القرى الجنوبية اللبنانيّة، والعكس صحيح، فالجانب الإسرائيلي ليس في موقع أفضل من الحالة اللبنانيّة، فلقد هاجر نحو 250 ألف نسمة من الحدود الشمالية لإسرائيل، ولن يعودوا إلى مستوطناتهم ما لم تضع الحكومة حلولاً كاملة لا تشكل عائقاً على الاقتصاد الإسرائيلي.
لم يعد الصراع محصوراً إذاً في غزة أو في الضفة الغربية، إنما تسلل إلى مناطق إقليمية لها بعدٌ عالمي على المستوى الاقتصادي والجغرافية السياسية. فتحركات الحوثيين في باب المندب شكّلت أزمةً دولية دفعت الولايات المتحدة الأمريكية للتدخل وتشكيل تحالف دولي لصد تحركات الحوثيين، في خطوة تدحرجت معها الحرب في فلسطين إلى مناطق إقليمية، وأصبحت أكبر من أقليمية وأقل من أن تكون عالمية حتى الآن، في وقت غدت الأزمة كبيرة وخطيرة، وتنذر بالتفاقم.
عودةً إلى العملية التي حصلت في ضاحية بيروت الجنوبية، لقد مرّ على الحرب قرابة 3 أشهر من دون أن تحقق إسرائيل أي نوع من النصر السياسي أو العسكري الذي سوف يترجم، بطبيعة الحال، بمفاوضاتٍ سياسية قد تحصل في المستقبل القريب أو البعيد، وهذا الفشل الذي منيت به رغم كل الدعم المطلق الذي تلقته من الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية على الصعيد السياسي والعسكري والاقتصادي والصمت العربي المريب، إلا أنها أُصيبت بعجزٍ وفشلٍ تامين، ما أدى إلى إطالة أمد الحرب من أجل البحث عن أي نصرٍ أو إنجازٍ يساهم في بقاء نتنياهو في السلطة، ويمدد مستقبله السياسي.
يعاني نتنياهو انقساماً حادّاً في حكومته السياسية ومجلسه الحربي وفي المجتمع الإسرائيلي خصوصاً، إضافةً إلى الضغوط العالمية من خلال تغير الرأي العام العالمي لصالح القضية الفلسطينية بعد المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق المدنيين. كل تلك الأسباب كانت كفيلة بأن يخوض نتنياهو في رهانٍ أكبر عبر تغيير قواعد اللعبة من أجل تحقيق مكاسب عسكرية وتقديمها للمجتمع الإسرائيلي لإثبات قدرته على تحقيق الانتصار ولو جاء متأخراً.
لقد صرّح سابقاً بأن كل قيادات حماس في الداخل الفلسطيني وخارجه هي أهدافٌ مشروعة لهم، ولكنها في الوقت نفسه لا تريد أن تفتح جبهاتٍ متعددة، فعندما تم استهداف الشيخ العاروري، سارعت الحكومة الإسرائيلية إلى القول إن الاستهداف هو لحماس فقط وليس للدولة اللبنانية ولحزب الله، لكن العملية هذه في القراءة السياسية والأمنية والعسكرية تحمل دلالاتٍ عدة.
على المستوى السياسي، تحاول الحكومة اليمينية المتطرفة إثبات قدراتها من خلال تنفيذ عمليات نوعية ضد قيادات المقاومة، وهذا سوف يعزز من قدرتها التفاوضية مستقبلاً، كما أنها تحاول تعميق الشرخ في المجتمع اللبناني المنقسم على نفسه أساساً؛ لكنه اليوم بات على شفا حفرةٍ تكاد تأخذ الجميع إلى التهلكة. ومثل هذا الانقسام والصراع الداخلي السياسي والاجتماعي في الجبهة اللبنانية يساعد إسرائيل على التصويب فقط على جبهة غزة والضفة الغربية، وفي الوقت نفسه، تحاول أن تقول للولايات المتحدة الأمريكية، رغم التباين الحاصل بينهما، إنها قادرة على التحرك منفردة، دون أخذ الإذن منها، مع العلم أن الدولة العميقة في إسرائيل تدرك تماماً أنها لا تستطيع أن تتخلى عن شراكتها الاستراتيجية والبنيوية مع أمريكا، وكل تصريحات اليمين المتطرف، أمثال بن غفير، تبقى مجرد خطاباتٍ شعبوية لا قيمة لها.
أما عسكرياً، فلقد كان الاستهداف عالي التقنية والحرفية؛ حيث تم إصابة الشقة التابعة لحماس حصراً من دون تدمير كامل المبنى، في رسالة واضحة تؤكد فيها إسرائيل قدرات جيشها رغم إخفاقه في هذه الحرب وخسران هيبته أمام العالم كله.
أما على المستوى الأمني، فإن إسرائيل تريد القول لحزب الله إنه مكشوفٌ أمنياً، وإنها قادرة على استهداف أي قيادي أو مسؤول للحزب؛ ولكنها لا تريد تغيير قواعد الاشتباك ولكنها جاهزة لفعل ذلك إذا اضطرت.
رغم كل الوقائع التاريخية القديمة منها والحديثة، إلا أن إسرائيل لم تقرأ التاريخ ولم تتعلم منه، إن قتل القيادات لن يفكك حماس، ولن ينهي المقاومة، فلقد اغتالوا الشيخ أحمد ياسين والدكتور أحمد الرنتيسي وبقيت الحركة، لأن المقاومة الفلسطينية لا تقوم على الأشخاص ولا على الأفراد، إنما هي قائمة على فكرٍ وأيديولوجيا وقضية وهوية مترسخة في القلب والوجدان، وكلما زادوا تقتيلاً بالشعب الفلسطيني ازداد هذا الشعب إيماناً وإصراراً على الصمود والمواجهة والثبات، فالمقاومة ليست خياراً أمامهم، إنما هي عقيدةٌ راسخة وجزءٌ أساسي من هويتهم الفردية والجماعية، وهي إلزامية لكل فلسطيني، فهذا الطفل الذي خسر كل حياته، وفقد كل أحبابه، لم يعد خيار أمامه غير القتال ضد من حرمه من طفولته ومن عائلته وسرق أرضه ودمّر منزله. وذاك الرجل الذي فجع بجميع أفراد أسرته وزوجته، هل لديه خيارٌ آخر غير الصمود والقتال والمواجهة حتى النهاية؟ وعلى إسرائيل، في نهاية المطاف، أن تدرك حقيقة واحدة مفادها أنها مندحرة وزائلة لا محالة، والمسألة مسألة وقتٍ لا أكثر. فهلاَّ وعت وارعوت فأدركت!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.