لا ينطق الزمان كلمته، ولو نطقها لكان ذكّر الأدعياء من أمتنا أن العرب الأوائل ما تركوا أهلهم يموتون جوعاً أو ينهش الذل وجهوهم، ولقال قولته بأني لا أعيد نفسي، فلكل زمان جبناؤه وشجعانه أيضاً، والوقت كفيل بكشف الأقنعة، أما التاريخ فيصر على أن يعيد نفسه في أمكنة وأزمنة مختلفة، لكن الثابت هو انتصار الحق على الباطل، وإن كانت الكثرة للباطل، وإن ثلة من الأولين والآخرين قادرون على قهر أعتى الطغاة في التاريخ، حيث الثبات على المبدأ والإيمان بصوابية القضية يهدم جبالاً من الظلم مهما كان شكلها ونوعها.
حوصر قطاع غزة في 2008 بعد دحر الاحتلال الإسرائيلي الجاثم من خلال مقاومة دقيقة وموجهة ضد العدو، معتمدة على وسائل بدائية في مواجهة مع العدو، وتزامن هذا مع سيطرة حركة المقاومة الإسلامية حماس على السلطة في القطاع، فكانت المقاومة تأخد منحى فردياً أو جماعياً تحت قيادة كتائب القسام أو باقي الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة،
ولهذا السبب لم يصمد الاحتلال ولا مستوطناته، وواجهت الحكومة الإسرائيلية وقتئذ ضغطاً من سكان تلك المستوطنات؛ ما دفع الاحتلال للانسحاب من غزة، وحمايةً لأمن دولته تم فرض حصار كامل على القطاع.
والوضع المعيشي للمواطنين فيها يتراجع يوماً بعد آخر، وكل مَن يحاول فكّ الحصار عن أهل غزة عبر البر والبحر يتعرض لمضايقات شديدة، فمثلاً شاحنات الإغاثة القادمة من مصر يحب أن تمر وتتم معاينتها في معابر الاحتلال قبل دخولها للقطاع، ونذكر هنا سفينة مرمرة التركية التي حاولت كسر الحصار عن غزة، تم اعتراضها من بحرية الاحتلال وتمت مصادرتها، وفي هذا الجانب أيضاً الضيق والخذلان الذي يعانيه أهل غزة ليس كافياً لتحريك الضمير العربي لدى الشعوب أو الدول العربية، التي غرقت هي الأخرى في وحل الأزمات الاقتصادية والمعيشية الخانقة، بالكاد يتذكر العالم غزة، وما يعانيه أهلها في فترات الحروب الإسرائيلية على القطاع.
وفي السنة السادسة من البعثة النبوية الشريفة كان حصار شَعب أبي طالب، حيث فرضت قريش حصاراً اقتصادياً واجتماعياً على بني هاشم، دام ثلاث سنوات، وذلك بغيةَ إسكات صوت الحق الذي خرج من جزيرة العرب، وآمن به أشراف مكة المكرمة وكرماؤها، حاولت قريش وأد القضية في أرضها من خلال التضييق على بني هاشم والتهميش بهم من خلال منع التبادل التجاري معهم، ومنع التزواج معهم أو منهم، حيث كُتبت صحيفة فيها بنود المقاطعة، وعُلقت على جدار الكعبة المشرفة، رغم ذلك لاقى هذا الحصار عدة اعتراضات من أمثال زهير بن أبي أمية، الذي قال رافضاً الحصار: "يا أهل مكة أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، لا يباعون ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة"، وعليه كانت تصل بعض من المساعدات والإمدادات لبني هاشم.
وعلى الجانب الآخر كان المؤمنون على قلة حيلتهم وعددهم، تمكنوا بالصمود والثبات على الحق من تحقيق ما كانوا يتمنونه من إكمال نشر رسالتهم رغم سياسات التجويع والإخضاع التي تعرضوا لها تحت لهب شمس الجزيرة العربية ورمالها الحارقة.
الشاهد هنا أن الثبات على المبدأ والإيمان تجاه القضايا المحقة ثمنها باهظ، قد تبدأ بالحصار وتضييق الخناق وتنتهي بالموت، إلا أن الحق هو الذي ينتصر في نهاية المطاف، والعدل الإلهي يأخذ مجراه، وأن الحقوق التي أُخذت بالقوة لا تؤخذ إلا بالقوة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.