ما تعلمته من النبي محمد عن مهارات التواصل الفعال

عربي بوست
تم النشر: 2024/01/02 الساعة 09:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/01/02 الساعة 09:54 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية/shutterstock

إذا نظرنا للسنة النبوية الشريفة بعيون من يعيش في القرن الحادي والعشرين سنجد أنها تستوعب كثيراً من المصطلحات الحديثة في علوم شتى، مثل مصطلح "مهارات التواصل الفعَّال" الذي صدَّعنا به مدربو التواصل، وكأن البشرية لم تعرفه في تاريخها قط. وشخصياً، أرى أن الهدي النبوي به من آداب التواصل (ويمكن أن تُسَمِّيها الأتيكيت، إن شِئْتَ) ما يسع المجلدات، وهذه بعض منها عَلَّنَا نستوعبها ونطبقها، إن لم يكن لأجل التواصل كمهارة اجتماعية لأهداف براجماتية، فمن باب اتِّباع الهدي النبوي. 

1- البسمة صدقة 

يخبرنا مدربو التواصل بأن بداية اللقاء مع أي شخص تحدد بقيته وتؤثر على نتائجه؛ ولذا يجب أن نحرص على أن نظهر أننا سعداء باللقاء، وإلَّا فلنتظاهر. وفي الهدي النبوي، يُعَلِّمُنَا نبينا ﷺ ذلك في نصيحته لأبي ذر الغفاري: "لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعروفِ شيئاً، ولو أنْ تَلْقَى أخاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ‏"‏‏‏. وفي هذا الهدي فائدة لمن يبتسم وفائدة لمن يلقى الابتسامة: فالتبسم صدقة ووجه من وجوه المعروف للأول، وترحيب ومودة للثاني. 

ولأن نبينا الكريم كان لا يُعَلِّم ولا ينصح إلا بما يفعل، فقد كان لا يلقى أحداً إلا والابتسامة ملءَ فيه كما في تأكيد عبد الله بن الحارث الذي قال: "ما رأيتُ أحداً أكثرَ تبسُّماً من نبي اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، وكما في وصف عائشة رضي الله عنها: "كَانَ أَلْيَنَ النَّاسِ وَأَكْرَمَ النَّاسِ. وَكَانَ رَجُلاً مِنْ رِجَالِكُمْ إِلا أَنَّهُ كَانَ ضَحَّاكاً بَسَّاماً".  

2- استخدام الألقاب الحسنة  

بعد انتهاء مرحلة "كسر الجليد" هذه، تأتي مرحلة فن استخدام اللقب المناسب مع المُتَحَدَّث إليه إن كان له لقب أو على الأقل التحدث إليه بالطريقة التي يحبها. هذا ما يؤكده خبراء التواصل الفعَّال، لكن بطريقة أقل جمالاً مما كان يفعله نبينا ﷺ الذي كان ينادي أصحابه بكناهم التي يحبونها ويتجنب تلك التي لا تروق لهم، ويُكَنِّي من لم تكن له كنية حفظاً لماء وجهه أمام الآخرين، ويغير الكنى والأسماء السيئة لأسماء حسنة مثلما غَيَّرَ ﷺ اسم رجل من "بغيض" لـ"حبيب"، واسم امرأة من "عاصية" لـ"جميلة". أما استخدام الألقاب السيئة في مناداة الآخرين فهذا أمر نهى عنه النبي وأخرج من يستخدمه من جموع من اكتمل إيمانهم بقوله ﷺ: "ليس المُؤمِنُ بالطَّعَّانِ ولا اللَّعَّانِ ولا الفاحشِ ولا البَذيءِ"، أي إن من يطلق الأسماء السيئة على غيره ناقص الإيمان، وفي هذا زجر شديد لمن يتهاون في استخدام الألفاظ النابية في مناداة من يحدثهم. 

3- ما قلَّ ودلَّ

أما مبدأ الكلام المفيد، وهو ما قلَّ ودلَّ، الذي يؤكد عليه خبراء التواصل، فقد حَثَّ هدي نبينا الكريم ﷺ عليه مراراً وتكراراً في أحاديث متعددة يؤكد في بعضها كراهيته للثرثرة والكلام فيما لا يفيد، وفي بعضها دعوته للصمت إن لم تكن هناك دواعٍ للكلام. فعن الأولى يقول ﷺ: "إِنَّ شِرَارَكُمُ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ الْمُتَشَدِّقُون". وعن الأخيرة يقول ﷺ: "مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أوْ لِيَصْمُتْ"، كما ينصح أبا ذر الغفاري بقوله: "عَلَيْكَ بِالصَّمْتِ إِلا مِنْ خَيْرٍ؛ فَإِنَّهُ مَرَدَّةٌ لِلشَّيْطَانِ عَنْكَ، وَعَوْنٌ لَكَ عَلَى أَمْرِ دِينِكَ". 

ولأنه ﷺ لا ينصح إلا بما يفعل -كما تقدم- نراه يطبق ذلك المبدأ تطبيقاً عملياً كما في وصف عائشة بقوله: "إنَّما كانَ النبيُّ ﷺ يُحَدِّثُ حَدِيثاً لو عَدَّهُ العَادُّ لأَحْصَاهُ"، أي حديثه قليل الكلمات دون ثرثرة، وكان كلامه ﷺ  -رغم قلته- مفصلاً كما في وصف عائشة كذلك: "ما كان نبي اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يسردُ سردَكم هذا؛ ولكنه كان يتكلم بكلامٍ بينه فصلٌ، يحفظه من جلس إليه"، وفي هذا درس نبوي آخر في التواصل الفعَّال، وهو حق من نتواصل معهم في أن نُبَيِّنَ ما نقصد حتى لا يحدث سوء فهم لما نقصده، أو نخسر علاقتنا مع من نحب بسبب عدم اهتمامنا بتبيين ما نقصد.

4- لغة الجسد

أما لغة الجسد التي يوليها خبراء التواصل الفعَّال حيزاً كبيراً من اهتمامهم وتأكيدهم على أهميتها في الحوار وعلى قيامها بدور كبير بدلاً من اللغة الملفوظة، فلم يتجاهلها الهدي النبوي، وتراها متحققة في أقوال وأفعال النبي ﷺ. فمن الأقوال الحديث المشهور عن كفالة اليتيم: "أنا وَكافلُ اليتيمِ في الجنَّةِ كَهاتين، وأشارَ بأصبُعَيْهِ يعني: السَّبَّابةَ والوسطى".  ومن الأفعال ما عُرِفَ عنه ﷺ من إظهار مشاعره على قسمات وجهه حتى يعلم بها من يحادثه، كما في وصف أبي سعيد الخدري للنبي: "إذَا كَرِهَ شيئاً عُرِفَ في وجْهِهِ"، وكان "إذا خطبَ احمرَّتْ عَيناهُ، وعلَا صَوتُهُ، واشتدَّ غضبُهُ"، في إشارة إلى عظم الأمر، وأهمية القضية، خاصة إذا كان في أمر يخالف شرع الله تعالى. 

5- الصبر على المُتَكَلِّم

من النقاط الفارقة التي يؤكد على أهميتها مدربو التواصل الفعَّال الصبر على من نحادثهم، حتى وإن ارتكبوا حماقة ما. والهدي النبوي مليء بالمواقف التي تثبت حلم النبي ﷺ وصبره على حماقة من كان يكلمهم. ولا أدل على ذلك من الموقف الذي جاء فيه كعب بن أبي زهير بن سلمة لنبي الله ﷺ ليعتذر له عما بدر منه سباً في الإسلام والنبي والصحابة وأمهات المؤمنين، حتى إن نبي الله قد أحلَّ دمه.

في موقف كهذا، كان يُفْترض بكعب الذي جاء معتذراً أن يبدأ بالاعتذار، وخاصة أن الصحابة كانوا يلتفون حوله وحول النبي ﷺ وكل منهم يريد أن يقبض روح زهير. لكن زهيراً قرر أن يلقي قصيدة يبدي فيها اعتذاره لكنه بدأها على عادة الشعراء في العصر الجاهلي من البدء بوصف الحال مع الحبيبة والناقة والرحلة ومصاعبها، وقد قال في هذه 37 بيتاً في قصيدته اللامية الشهيرة التي تبدأ بـ"بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ". انتظر النبي زهيراً وهو يتغنى بـ37 بيتاً قبل أن يعلن زهير اعتذاره الصريح في البيت الـ38: 

أُنْبِئْتُ أنَّ نبي اللهِ أَوْعَدَني *** والعَفْوُ عَنْدَ نبي اللهِ مَأْمُولُ 

وقد أدرك الصحابة بعد ذلك أهمية الحلم الذي تمتع به النبي؛ إذ حصل المسلمون على قصيدة خالدة في الاعتذار وراقية في معانيها، حتى إنَّ النبي عفا عن زهير، بل وخلع بردته وألقاها على كتفه، فسميت قصيدته "البردة". والآن تخيل أن أحداً من الناس قد سبَّك وسبَّ أهل بيتك وجاء ليعتذر، هل ستمهله كل ذلك الوقت وتصبر عليه وهو يصف "سعاده" و"ناقته"؟!

6- عدم الانفراد بأحد وسط مجموعة 

ومن مهارات التواصل الفعَّال في وجود مجموعة من الناس أن يُوَجَّه الكلام للجميع، دون أن يستثني أحدٌ أحداً؛ لأن ذلك سيشعر المُسْتَثْنَى من الكلام بأنه ليس محل ثقة. هكذا يُعَلِّمُنَا مدربو التواصل الفعَّال. وفي هذا الصدد يقول النبي ﷺ: "إذا كُنْتُمْ ثَلاثَةً، فلا يَتَناجَى رَجُلانِ دُونَ الآخَرِ حتَّى تَخْتَلِطُوا بالنَّاسِ، أجْلَ أنْ يُحْزِنَهُ". 

7- مراعاة مشاعر الآخرين، خاصة في المحن 

ومراعاة مشاعر الآخرين، كما يقول مدربو التواصل الفعَّال، باب كبير من أبواب الثقة المتبادلة فيمن يتحادثون، ويعني هذا ألا نتخذ موقفاً أو ننطق بكلمة تجرح مشاعر الآخرين، خاصة وهم يمرون بظروف صعبة. 

والهدي النبوي مليء بمواقف راعى فيها نبينا ﷺ مشاعر من كانوا يتواصلون معه، إلا أنني أجدني مشدوهاً من الموقف الذي اتخذه نبي الله ﷺ مع عبد الله بن عبد الله بن سلول، الذي جاء يسأل نبي الله قميصه حتى يُكَفَّنَ فيه أبوه (رأس المنافقين)، بل وطلب من النبي ﷺ أن يُصَلِّي على أبيه فلم يرفض النبي ﷺ، ولم يكن حُكْم الله بتحريم الصلاة على المنافقين قد نزل بعد. عندئذ، انتفض عمر، مستنكراً على النبي أن يُصَلِّي على عبد الله بن سلول، إلَّا أنَّ النبي ﷺ رفق بعبد الله الصغير مراعاةً لمشاعره تجاه أبيه، فهو أبوه حتى وإن كان معلوماً نفاقُه. اختار النبي ﷺ هنا مراعاة مشاعر أحد الصحابة وهو يَعْلَم أن الله قال: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)، وقال صراحة لعمر: "أَخِّرْ عنِّي يا عُمرُ، إنِّي خُيِّرْتُ، فاخْترتُ… لوْ أعلَمُ أنِّي لوْ زِدتُ على السبعينَ غُفِرَ لهُ لزِدْتُ". فمن منا يستطيع ذلك؟ 

8- توجيه النصح على الملأ

يؤكد خبراء التواصل الفعَّال أن النصح المباشر على الملأ لمن نتحادث معهم يوحي لهم بأننا سلطويون نفرض إرادتنا عليهم، حتى وإن كانوا قد ارتكبوا أخطاءً تتطلب التصحيح والنصح بالفعل. 

وفي هذا الصدد، يأتي الذوق النبوي ليرشدنا كيف نَنْصَحُ على الملأ كما في الحديث الذي ترويه عائشة رضي الله عنها: "كان النَّبيُّ ﷺ إذا بلَغَه عنِ الرَّجلِ الشيءُ لم يَقُلْ: ما بالُ فُلانٍ يَقولُ: كذا وكذا، ولكن يَقولُ: ما بالُ أقوامٍ يَقولونَ: كذا، وكذا"، وبهذه الطريقة النبوية البسيطة، كان يَعْلَمُ من ارتكب الخطأ أنه أخطأ دون أن يشعر بالحرج، وكان يتعلم من لم يرتكب خطأً أن يتجنبه مستقبلاً. 

هذا غيض من فيض الأدب النبوي الراقي الذي سبق معلمي التواصل الفعَّال ونظريات التواصل بقرون، وصدق رسول الله ﷺ حينما قال: "أُوتِيتُ جَوَامِعَ الكَلِمِ".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]


مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سعودي صادق
كاتب ومترجم مصري
كاتب ومترجم مصري
تحميل المزيد