68 عاماً مرَّت منذ استعادة السيادة الوطنية، أو جلاء المستعمر، أو إعلان الاستقلال المجيد، سمِّه كيفما تشاء، بيد أن الواقع الراهن الذي تتصدره الحرب في بقاع الدولة السودانية لا يمكن أن يسمَّى إلا تتويجاً لفشل الأداء السياسي لجميع التنظيمات والأحزاب السياسية المشاركة في الحكم والمعارضة، الحديثة منها والتقليدية أيضاً.
الأمر ببساطة أنها تنقصها الرؤية الشاملة التي تقودها عبر منهجيات مدروسة إلى وضع لبنات أساسية تستند إليها أجهزة الدولة للقيام بواجباتها، وفقاً لمشروع وطني يلتف حوله السودانيون بمختلف أيديولوجياتهم السياسية، والفكرية، والثقافية، والاجتماعية، والعقائدية.
الباحث والناظر في تاريخ الحركة السياسية الوطنية في السودان ربما كان يتنبأ بهذا الانفجار الدموي الهائل في بلاد النيلين، لا لشيء سوى إدراكه لانطفاء صحوة الضمير الوطني لتلك القيادات السياسية، في الوقت الذي كان فيه الوطن يكافح ويتعلم للأخذ به من ظلام التخبط والازدراء، لعله يقدر في يوم أن يشيد وطناً شامخاً، مستقراً سياسياً، وقوياً اقتصادياً؛ إلا أن الإرادة المستقلة من آثار الإنجليز تبدو عاجزة عن جدولة أولويات البلاد، ومخاطبة تركات المستعمر الذي استطاع بدهائه الماكر وسياساته الخبيثة تفتيت وحدة هذا الشعب، سياسياً، واجتماعياً، وتمكين بعض المجتمعات على حساب مجموعات أخرى، مثالاً لا حصراً: اقتطاع مساحات من الأراضي الوطنية أشبه بالمستوطنات داخل الوطن الأم، أو ما يطلق عليها محلياً (بالحواكير)، وهي قطع أراضٍ شاسعة تُمنح للقبائل بموافقة السلاطين والحكام، ويتم تمليكها على بعض المكونات المصطلح على تسميتها "الأصيلة"، وحرمان المكونات الأخرى المسمَّاة "الوافدة". وبطبيعة الحال هذا المنحى لا تكون نتائجه سوى اشتداد الصراعات الدامية بين هذه الفرق، وبالتالي كان هذا النموذج مثل كعب أخيل لهذه الحكومات المتعاقبة، والأمثلة والنماذج تكثر في هذا المضمار.
هذه القضايا الأساسية والفرعية منها فشلت كل الأنظمة بمختلف أشكالها وأطيافها السياسية في حلها، أو إطلاق دعوة صادقة للقوى الفاعلة والمؤثرة في تشكيل الرأي العام المحلي؛ لأجل عقد مؤتمر دستوري شامل تناقش فيه تلكم القضايا الشائكة والمتلازمة لعقود من الزمان، حتى وإن استمرت جلسات المؤتمر سنوات بُغية التعمق في جذور هذه المشكلات وعكسها لحلول مُرضية في الحد الأدنى.
كما لم تعمل تلك الأنظمة التي توالت منذ الاستقلال على نقل أو النظر في تجارب الدول الأخرى القريبة لحالة السودان، أو الأكثر تعقيداً منها لتستقي منها دروساً ونماذج لكيفية إدارة تلك الدول مشاكلها وتقاطعاتها الدينية، والعرقية، واللغوية، وغيرها من الجوانب الاجتماعية التي استطاعت عن طريق رؤية وعزم صادق أن تقفز بشعوبها لتصنع دول متطورة ناهضة في شتى الدروب.
لعل هذا الوضع القاسي، الذي نشهد فيه تمزيق الشعب السوداني بأكمله: من قتل، وتشريد، وفقدانٍ للممتلكات العامة والخاصة، قد أفاق بعض الفئات والنخب السياسية وأعضاء الأحزاب على واقع مرير. فقد تبدَّت عبثية نظرياتهم وفشلت تجاربهم أمام قسوة الواقع، الذي يشهده الأطفال والنساء والشيوخ قبل الشباب.
وأمام مأساة اليوم، وما نشهده من صرخات الأطفال والنساء التي مزقتنا جميعاً من الداخل، ربما تجعلنا نستدرك مأزقنا والضرورة الملحة لوضع حد للصراعات السياسية والمصالح الشخصية، والتركيز على وقف نزيف الدم وإسعاف الوطن الجريح.
في ذكرى استقلال البلاد يجب أن تأتي الأولوية دون غيرها لوقف نزيف الدم وإسعاف الوطن النازف، عبر تلك المباحثات المرتقب عقدها في هذا العام الجديد الذي يأمل منه السودانيون أن يكون فاتحة خير وسلام حقيقي، تمهيداً للمّ شمل السودانيين للجلوس بتواضع في حضرة الوطن المكلوم لكتابة الفصل النهائي للسفسطائية السياسية، والنفاق الفكري الذي دوماً ما تنتج عنه مثل هذه الحروب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.