شهد المغرب غلياناً شعبياً استثنائياً حرك المياه الراكدة في مجال التضامن مع القضية الفلسطينية ذكَّرنا بزمن التفاعل مع الانتفاضة الثانية، ولئن دفع ذلك الاحتقان السلطات المغربية آنذاك إلى إيقاف التطبيع الرسمي وإغلاق مكتب الاتصال في العاصمة، فإن المفارقة أن الحراك الحالي لم يحرك ساكناً عند المسؤولين المغاربة، فعلى العكس من ذلك فقد التزم المغرب في بدايات الحرب بالحياد السلبي.
هذا الحياد السلبي والصمت الرسمي تجاه حرب الإبادة التي تمارسها إسرائيل على قطاع غزة ظهر جلياً في رفض الدولة المغربية الاستجابة لمطالب الشعب المغربي بخصوص إسقاط التطبيع، ما جعله يضيق بالاحتجاجات بعد أن انتزع المغاربة حق التضامن مع إخوتهم الفلسطينيين، في تحدٍّ لحصار خانق دام سنوات عجافاً، ومع ذلك فقد ظل يتحين الفرص لمنع وقمع الأشكال الاحتجاجية ما أمكنه ذلك، فحتى المسيرة المليونية الأولى في الرباط التي نظمت بعد طوفان الأقصى حرضت عليها بعض المنابر الإعلامية الرسمية، ولولا الحشود الهائلة التي ألجمت هذه القنوات ما تراجعت عن موقفها، على أن هذا التراجع يبقى تراجعاً تكتيكياً، فالرسالة الضمنية التي بعثها المخزن للجميع هي أنه أمام قوس فتح على غير رضاه وسيغلق في أقرب وقت مع فتور الشعب المغربي أو مع هدوء الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة مكرراً سيناريو التفافه على هبة المغاربة تفاعلاً مع عملية سيف القدس قبل سنتين.
الحقيقة أن ردود أفعال الإسرائيليين الممتعضة من حراك المغاربة على منابرهم الإعلامية تفسر جزءاً من التفاعل الرسمي المغربي غير الإيجابي مع العدوان على غزة، فبعض هؤلاء الإسرائيليين قد نصبوا أنفسهم أوصياء على المغرب، بل وتعدى طموحهم إلى الطمع في تغيير جلد الشعب المغربي برمته، حيث أضحوا يستكثرون عليه تنظيم الوقفات والمسيرات المناصرة لفلسطين التي درج عليها منذ عقود.
وهذا لم يعد مستغرباً من الاحتلال الإسرائيلي، فسوابقه أكثر من أن تعد، وما دفْعُه بممثله الدبلوماسي لزيارة المناطق المنكوبة بفعل الزلزال الأخير قبل أي مسؤول مغربي أو سفير أجنبي إلا تعبيراً فاضحاً عن فداحة الوضع وعمق العلاقات بين الدولتين، حيث يتضح يوماً بعد يوم أن التطبيع كلمة ملطفة عن حقيقة ما يجري في المغرب.
لذلك فإن وتيرة الكفاح ضد حرب الإبادة التي تمارسها إسرائيل على قطاع غزة، يجب أن تتناسب مع حجم التقارب الاسرائيلي مع المغرب، وهو ما لم يحصل، فلئن سجلت الهيئات التضامنية مع فلسطين خرقاً لبعض الخطوط الحمراء إلا أنها لم تكن كافية للقطع مع الزمن العبري الذي دخل فيه المغرب، ولم تخرج عن إيقاع احتجاجات ما قبل التطبيع؛ فالملاحظ أن حالة الغليان الشعبي المصدوم ببشاعة ما كان يتابعه من صور ومن فيديوهات عن الأوضاع في غزة لم تستثمر استثماراً أمثل في حراك ممتد باعتصامات في كل الساحات مع عدم مغادرتها حتى إلغاء كل الاتفاقيات مع إسرائيل.
فقد اختاروا أن يأخذوا أوقاتاً مستقطعة حتى فترت الهمم وتعودت الجماهير على المشاهد المأساوية، بل إن ما بعد مسيرة 15 أكتوبر التي عُدَّتْ بمثابة استفتاء شعبي لدعم خيار المقاومة ولرفض كل أشكال التنسيق مع إسرائيل، شهد تراخياً لا مسوغ له، فتوقف الحراك لأيام في معظم المدن المغربية كأن هيئات التضامن مع غزة قد تمكنت من إنهاء الحرب عليها ومن القضاء على التطبيع، لتتراجع وتيرة التضامن بشكل كبير إلا في محطات معينة، وينصب تركيز تلك الهيئات على تسجيل حضورها أكثر من التأثير الفعلي في صانع القرار.
اللافت أيضاً هو مستوى السقف المتدني في خطاب فئات من المناهضين للتطبيع، فلئن هاجم بعضهم تطبيع النظام المغربي فقد تفادى كثيرون الإشارة إليه، بل إن هناك من برأ المخزن وجعله ضحية تستهدفه المخططات الإسرائيلية، في تحليل غير واقعي يتجاهل العلاقات التاريخية بين المغرب الرسمي والاحتلال الإسرائيلي، ويغض الطرف عن حجم الحماسة التي أبداها رموزه من إخراج هاته العلاقات إلى العلن والتي تورط فيها جل مسؤوليه في مختلف المجالات.
وهكذا استغل الفرصة عرابو التطبيع من "مؤثري مواقع التواصل الاجتماعي" لتبييض صفحتهم والظهور بمظهر المتعاطف مع فلسطين، وتمييع قضية مناهضة التطبيع وإفراغها من دلالاتها وتحييد المخزن من جرم ربط الصلة بالاحتلال الإسرائيلي، وبعد أن تمكنوا من الحفاظ على مكانتهم بين جمهورهم عادوا ليصرفوا انتباه أتباعهم عن العدوان على غزة بتركيزهم على مواضيع أخرى.
الخلاصة أن مناهضي التطبيع قد ضيعوا فرصة ذهبية لإخراج المغرب من المستنقع الذي غرق فيه بفعل افتقاد الجرأة على تصعيد الفعل الاحتجاجي، ومع ذلك يمكن تدارك الأمر بالعمل على حصار الفعل الخياني باستثمار الذاكرة المختزنة لآلام وأوجاع أهل غزة عند عموم المغاربة، وحشدهم ضد استئناف اللقاءات التطبيعية وتفعيل المقاطعة الاقتصادية في مواجهة الشركات المغربية المتورطة في علاقات تجارية مع الاحتلال الإسرائيلي، وحثّ التجار على عدم التعاطي مع السياح الإسرائيليين، وهو ما يستلزم تعبئة دائمة من أجل الحفاظ على نبض المجتمع المغربي من أية نزعة تحرفه عن بوصلته تجاه قضية أمته المركزية، ومن أجل عزل موقف السلطة عن المجتمع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.