التعرف إلى نمط معين من المثقفين في زمن أحداث كبرى ومفصلية بالتاريخ، من خلال الإشارة لأنفسهم بمواقف وأفكار لا تستدعي جهد البحث عنهم في زمن الثورات، ولا في مراحل التحرُّر الوطني من الاحتلال، أو في معارك نَيل الحرية من الطغاة والمستبدين، معرفة ليست بالأمر المعقد الذي يدعو لبذل جهد يفك طلاسم هذه المعرفة، الإشارات الإشكالية لطروحات ممن يُعتبرون مثقفين، تبدو في الظاهر إشكالية، وخصوصاً في زمن الاشتباك المباشر، ومدروسة بالجوهر، للوصول لقناعة بعدم فاعلية وجدوى وجود مقاومة للفلسطينيين ضد الاحتلال، وتحديداً ما يُثار منذ عملية "طوفان الأقصى" من هجمة مدروسة ومنسقة على المقاومة الفلسطينية ككل، لإكمال هذه الحلقة الممتدة منذ ما بعد أوسلو 1993على الأقل، وأصبح هذا النمط مؤسساً إلى حد معين ومرتبطاً بأجندة ومنابر أصبحت اليوم عنوان التصهين في عواصم عربية من الرياض وأبوظبي إلى القاهرة وصولاً الى رام الله.
فلا يعقل أو يُصدق أن يُفرِد بعض الإعلام العربي مساحةً مهمةً من صُحفه وقنواته الإعلامية لاستضافة هذا النمط المنشغل فقط لتوجيه لغته المتلألئة بكمية الحقد الطافح على الفلسطينيين وقضيتهم وعلى مقاومتهم، دون أن يكون بتوجيهات من رأس السلطة في أنظمة لا تؤمن أصلاً لا بالحرية ولا بطرق الحصول عليها، ولا بالمقاومة أياً كانت ممارستها، لكنها تؤمن بوظيفة وسائل الإعلام كلها التي تقبض عليها، وأن تمتثل لإرادتها المرتبطة مع إرادة الاحتلال ورؤيته المشتركة مع هذه الأنظمة، لما يمكن أن تصير عليه فلسطين وقضيتها وشعبها، تقسيم هذا الحقد بين جموع المثقفين والأبواق الإعلامية التي تقاس وتوزع درجة الحقد على المقاومة، وكما في السابق على أيديولوجيتها وربطها مع "أجندة" غير وطنية والتركيز على أخونتها، ونفي الطابع الوطني عنها، وبالتالي أي سلوك تقترفه يكون تنفيذاً لهذه الأجندة.
وبالمنطق نفسه الذي يدار هنا، وتنفيذاً لرغبة التصهين الرائج يكون الدور المناط بهؤلاء المثقفين والأبواق مرتبطاً بأجندة غير معنية بمشاريع مواجهة الاحتلال التي تُفرض على الشعب الفلسطيني، نتيجة لسلوك الاحتلال العدواني، وحسبما هو منتشر على وسائل التواصل الاجتماعي وبعض الصحف، والمضغوطة بسعار يلهث من ورائه كثيرُ من هؤلاء، تُطرح أسئلة الإجابة عنها مقروءة من نفس الدلو الذي يسكبه هذا المثقف أو البوق في وجه "قُرائه أو متابعيه".
هذه القراءة ليست جديدة، كانت في زمن فلسطينيّ ذروة النضال فيه كانت متوّجة "بكرتونة احتجاج" مرفوعة على دوار رام الله، وشمعة مشتعلة على الطريقة الفنلندية والسويدية من التعاطف مع شعب تحت الاحتلال وبيان مكتوب، وهذا النمط استمر ثلاثة عقود والتَهم كلَّ شيء له علاقة بحقوق الفلسطينيين وأرضهم، وزاد من خسائرهم التي لم يفد تباكي المثقفين عليها، ولا "كراتينهم" المرفوعة كان لها تأثير، ولا بيانات شجب وشتم خيارات الفلسطينيين الأخرى، ولا بطولتهم ولا "جُبنهم وتخاذلهم" الذي نعتوا به من قبل المثقفين ذاتهم وأبواق أنظمة العجز العربي، لا بالسلاح ولا بالأيدي والأجساد العارية، وجد الفلسطينيون من يقف لجانبهم لا من أبناء الجلدة المنفصلة عن عظمها، ولا من ذوي القربى بالدم والعروبة والإسلام، فكل فعلٍ يُعبر عنه فلسطينياً ويؤذي المشروع الاستعماري الصهيوني تجد للأخير أنصاراً ينتمون لثمرة المحتل، ويقفون مع قشرة القضية. وغزة ليست الخلاف، فهذه جنين ونابلس وطولكرم والخليل والقدس والمناطق المحتلة عام 48، في كل هذه الأرض الفلسطينية لم يكتشف المثقف بعد الطبيعة الاستعمارية لعدو الشعب الفلسطيني بقدر اكتشافه لواجب أن يستسلم ويستكين الفلسطينيون لعدوهم.
بعيداً عن الشخصنة يُفهم من مواقف كثيرة تُجمع على شتم المقاومة، لا نقد سلوكها المؤجل لما بعد العدوان، كما في مهمة تحطيم رمزيتها في غزة، أو ضرب صورة رموزها هناك، والتقليل من شأن شجاعتها وبسالتها، ومما أحدثته في الميدان من إنجازات، وما ألحقته من خسائر في صفوف جيش الاحتلال، إذ تُظهر أعراض القلق ورفع المعايير عند مثقف التمثيل بأقنعة مختلفة لدور الإنسان الحريص على الكلام، وعن الأنسنة والتوتر من أوضاع الأطفال والنساء، وحجم الدمار، والقلق من المستقبل، أن لديه ما يطغى على موضوعات النقاش وكتابة الدراسات في زمن استباحة الاحتلال لكل المحرمات، وبوضع كل اللوم على الشعب الفلسطيني، لأن لديه "مخالب" تحاول أن تخدش جسد الاحتلال، وتدميه أو تعطب أحد أطرافه في بعض الأحيان، وبأن على هذا الشعب واجب استيعاب الدرس العربي جيداً، ويكون مستسلماً لرغبة عدوه وإرادة سلطته وأنظمته العربية، وأن يكف عن محاولاته الباهظة الكلفة بكل مواجهة وبدونها، وهنا يبرز دور المثقف "التمثيلي الحقير" المنادي بمعاداة الكرامة الإنسانية والتحرر، لشعور منتشر بينه وبين سلطةٍ بائسة مع أنظمة متصهينة، بتكثيف القلق على الذات والدور والوظيفة التي تصاب بعطلٍ يليه انهيار وانكشاف.
قراءة مسار العدوان على غزة، والموقف من الشعب الفلسطيني ومقاومته، من قبل قشور ثقافية وإعلامية تنتمي لبذرة المحتل والطاغية العربي ضروري للتعرف على المثقف التمثيلي برداءة ممارساته الذاتية، بعد استظهار أمراض رسمية عربية في التمثيل بروابط الدم والعروبة و"المقاومة"، وقد اختفت لديهم أعراض إنسانية وأخلاقية في ممارسات يومية في التفرج على مشهد العدوان، وفي الدفع بجموع المثقفين "المُطبّلين" لبناء ما يمنع الكرامة، بإسهاب يشرح أضرار المقاومة، والتحريض ضدها، وبعدم فائدتها وفاعليتها، رغم اعتراف أوساط صهيونية بفاعلية المقاومة وضررها عليهم وعلى مشروعهم، وهذه القراءة تكشف الفصل الحاسم بين فعل الثقافة والأخلاق وادعاء المعرفة بالأسباب والظواهر، التي تدفع شعباً تحت الاحتلال لاستقصاء الأسباب التي أنتجت هزيمة عربية نُسجت من أثواب الحاكم العربي، وطُرزت عليه، باستحالة احتمال أن يتجرأ هو وجيشه ونظامه الاقتراب من العدو، أو التفكير بإحداث حالة اشتباك معه.
فأي شكل تنتهي عليه المواجهة القائمة بمقاومة الفلسطينيين لعدوهم الفاشي في غزة وفي بقية الأرض الفلسطينية المحتلة، لا تُلغي البطولة، ولا تُلغي الثقافة الوطنية وزمنها الحديث وعنصرها المتألق بشموخ يدافع عن ذاته المهددة بالإبادة، كما يؤكد مفهوم الصراع المتعدد الذي يخوضه الشعب الفلسطيني، ومنه مواجهة المثقف المهزوم قبل انتهاء المعركة، وهو يبث بيان الهزيمة من تلفزيون وصحافة عربية تُصر على فاعلية العبرنة، رغم ثلاثة أرباع من القرن من الفشل، وثلاثة أشهر من الكبرياء الفلسطيني الذي لم يألفه نمط مثقفٍ يبشر بفائدة ثمرة المحتل وبمشاريعه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.