كشف جندي إسرائيلي عن أن ضابطاً بجيش الاحتلال صديقاً له اختطف رضيعة فلسطينية من قطاع غزة، بعد مقتل عائلتها بالقصف العنيف الذي يشنّه جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ 3 شهور.
لا أعلم ماذا يمكن أن يكتب الكتاب عن تلك القصة، هل من خيال يستطيع أن ينسجها كما نسجتها ظلمات النفس البشرية وأنوارها، بل هل تستطيع أقلامهم إكمالها وفق منطق سردهم الوجودي، أن ضابطاً إسرائيلياً مجرماً يخطف طفلة رضيعة من غزة؛ بعدما قضت عائلتها تحت قصف طائرات جيشه، وعن كيف استطاع تسريبها إلى مدينة ما في الأراضي المحتلة، ثم عاد ليمارس إجرامه وسفكه للدماء، بينما عاجلته المقاومة وقضت على أحلامه المسروقة مع حياته المزيفة، لعله كان يحلم بانتزاع نصر يعود به بطلاً إلى أراضيه المحتلة وكهدية لنفسه على ذلك النصر سيستمتع بتربية الطفلة واللعب معها، سيحضر لها الهدايا وينتظر حضنها الدافئ لدى كل عودة، ثم ينتظر أن تكبر لتصبح ابنته المسروقة؛ فيزرع فيها حقيقة لا يعرفها غير خياله المريض عن أرض وجسد وروح ليست له، ربما كان يحلم أنهم سيجريان معاً يجتازان مدناً تنتمي للفتاة فقط دونه، فيسرق هذا الإحساس أيضاً وكأنه هو الآخر ينتمي لتلك الأرض التي تلفظه، ربما أيضاً كان سيعلمها الغناء، الغناء للسلام والأمل، لكن ربما لم يسأل نفسه هل يمكن أن تبقى ذاكرة الرضيعة حية لتكشف زيف تلك الحياة وتلفظه هي الأخرى؟
لتكشف كيف انبنت على الخسة والإجرام والإبادة، لتكشف أن اللحن مسروق وكلمات الأغنية مسروقة والحضن مسروق والأرض مسروقة والروح مسروقة، وأنها جميعاً لا تسلم لسارقها، كأجزاء الجمال التي سرقتها ساحرة شمطاء من بنات حي في حكاية قد سمعتها، وألصقتها على أجزاء جسدها القبيحة المتداعية، فصارت الأجزاء تنمو وتتشكل من جديد على وجوه الضحايا لتعلن عن جسد سارق وقاتل كالسرطان.
لم يستطِع الجندي المجرم العودة ولم يستطِع زملاؤه أن يأتوا بالنصر، بدلاً من ذلك قرر أحد زملائه الحديث عن القصة المروعة متسائلًا: أين الرضيعة، لقد مات ولا نعرف في أي مكان تركها، ومع أي شخص أودعها.
لا أعتقد أن الاحتلال الذي أودع بمساعدة العالم الحر آلاف الأطفال في القبور سينشغل بالبحث عن الرضيعة والتحقيق في وضعها، أو تكون قصة الطفلة معركة اليسار الحقوقية القادمة. فكم من الجرائم البشعة التي تغاضى عنها ذلك العالم المنافق البارد، جرائم تنوعت من قتل آلاف الأطفال وتمزيقهم إلى أشلاء، وجرائم تجويع مئات الآلاف وتعطيشهم، وجرائم استهداف المشافي وعربات الإسعاف، وجرائم إبادة عائلات بأكملها، وجرائم السكوت والخنوع، التواطؤ والتزييف، وسكب دموع التماسيح على شعب لا يغيثه أحد؟!
هنا توقفت عن استدرار الألم بالكتابة، وأمعنت النظر في الاحتلال والحدود والمساحات المتضامة بين سرقة الأرض وسرقة الجسد وسرقة الروح، فهو لا يكتفي باحتلال الأرض وحدها، بل يجتاح الأجساد أيضاً، ويأمل أن يضع أطفالنا في الجانب الآخر ضد أنفسهم وأرضهم وتاريخهم.
فإسرائيل لا تسرق الأرض فقط، بل تعمد إلى سرقة الجسد والروح الفلسطينيين حقيقة ومجازاً، كي تصنع لوجودها الشاذ شكلًا تاريخياً وجمالياً وحضارياً، تدفن به تاريخ وجودها القائم على الأجساد والإجرام والخسة والشر.
يداوم الاحتلال الإسرائيلي على سرقة وسلب كل إمكانات الحياة والثقافة من الدول المحيطة، من تاريخها ومجتمعاتها، في محاولة مستمرة لتهويد التاريخ والمعرفة والثقافة والحياة ثم طلاء وجهه القبيح بذلك الخليط المزيف المسروق، فما علاقة ضابط عتيد الإجرام والشر متمرس على القتل وإبادة الأبرياء بتربية طفلة والاعتناء بها وملاطفتها سوى كناية حقيقية عن إسرائيل، فذلك الجندي القاتل لم يرَ وجه الطفلة، غير أنه وجد فرصة لتجميل حياته الإجرامية به ومن ثم تقديمها للعالم.
إن ما فعله هذا الجندي اليائس هو ما تفعله إسرائيل كل يوم منذ نشأتها، سرقة كل شيء وإعادة تدويره بفلسفة النفعية وأموال الرأسمالية العالمية لتجمل وجودها القائم على الإرهاب والشر، فتبهر السطحيين وأصحاب الفلسفة النفعية ومدعي العقلانية كصهاينة العرب المنبهرين بالحياة الإسرائيلية الذين يدعوننا للتواصل مع المحتل والتطبيع مع وجهه اللامع المتطور.
إن هذه الحرب ليست كغيرها فهي كاشفة، فكما عرت العالم وقيمه بينت سر السردية التي تطغى على مشهد الصراع، سردية تسعى لنحت هذا الوجه المسروق في ذهن العالم والحفاظ عليه من التهاوي، لذلك يجب النظر للأكاذيب الأمريكية خاصة والغربية عامة في أهميتها كالأسلحة الداعمة للإبادة والحفاظ على الأرض في قبضة السارق، لأن تلك الأكاذيب تبتغي ترميم الجسد الحضاري المسروق وترميم نسبته إلى إسرائيل على أجسادنا وأرضنا.
فعلى سبيل المثال، صادفني في أحد المقالات بموقع عبري كتب أحدهم ممجداً روح السخرية والدعابة التي لم تفارق المجتمع الإسرائيلي في أحلك الأزمات وقت الحرب، روح معروف أنها خصوصية للمجتمع المصري، لكن يأبى الإسرائيلي إلا أن يسرق كما يتنفس، فالمجتمع الإسرائيلي لا أحد تجمعه أي سمة إلا الهلع والخوار، وما حدث هنا ما هو إلا سرقة لخصوصية ثقافية امتاز بها مجتمع آخر هو المجتمع المصري، سرقة يحاول الاحتلال توطينها في الخطاب والممارسات كي يسرق أصالته في تلك الأرض المسروقة ولكي يخفي بصمته الإجرامية.
بالعودة لخطف طفلتنا، لو كانت تلك القصة في بلد لا نعرف قصصها لربما قلنا إن الدافع وراءها مستتر لكن ولكونه جندي احتلال فالنية معروفة، فهو ليس إلا جندي يعبر عن قبح هذا المستعمر الاستيطاني الذي تضرب الشيخوخة أطنابه وتهدد وجوده، والحاقد في الوقت ذاته على الخصوبة الفلسطينية والحياة الفتية في غزة رغم الحصار والدمار، قتل الأطفال وسرقتهم واعتقالهم لا ينفك أبدًا عن تلك الدوافع النفسية، فإسرائيل تريد ترميم شيخوختها وإنهاء شباب القضية ومجتمعها، وهذا لبّ الصراع على المدى الطويل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.