يمضي الاحتلال الإسرائيلي في حربه على قطاع غزة، ملقياً آلاف الأطنان من ذخائره على سكان القطاع المحاصر ظُلماً منذ 17 سنة، ومع أهوال القصف ومشاهد الدم والدمار التي يُخلِّفها يخنق الاحتلال أي فسحة آمنة يحتمي فيها الفلسطينيون في غزة من القصف، ويستهدف البشر والحجر، بل وسرقة الممتلكات ونهبها، ويرتكب ممارسات غير أخلاقية بحق القبور والجثث وينكل بهما.
لم تتوانَ قوات الاحتلال عن ارتكاب أبشع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، جرائم لا تقل بشاعةً عن احتجاز جثامين الشهداء وانتزاع الجلود والأعضاء البشرية لهم، والتمثيل بالجثامين وتسليمها "مشوهةً"، كدليل جديد على انتهاك قوات الاحتلال كلَّ الأعراف والحرمات، ليس فقط للأحياء الصامدين، بل لأجساد الشهداء.
مشاهد عديدة ارتكبتها قوات الاحتلال بحق المدنيين العُزّل، منتهكةً بفعلها ذلك كل ما نصَّت عليه اتفاقيات القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، وأعراف الحرب من مبادئ، لعل أهمها حماية المدنيين، والعمل على تطبيق مبدأ عدم جواز الإفراط في استعمال القوة واستخدام الأسلحة الفتاكة والمتطورة لارتكاب جرائم حرب الإبادة في غزة برعاية الإدارة الأمريكية.
لقد نفّذت قوات الاحتلال مخططاً إجرامياً لإبادة الشعب الفلسطيني، وعمدت إلى استخدام كل الإجراءات الممكنة والمتوفرة لديها، ولم تكتفِ في سياستها القمعية والعقابية بحدٍّ، بل وسَّعتها لتشمل من دون تمييز المدنيين العُزّل من أطفال ونساء وشيوخ، وارتكبت مئات المجازر في حرب الإبادة الجماعية.
أرقام وإحصائيات
الأرقام والإحصائيات تؤكد أن الحرب الجديدة على غزة هي الأكثر عنفاً وبشاعةً وخروجاً عن القرارات الدولية، حيث شمل القصف جميع البنى التحتية، وضمنها المستشفيات، في حين بلغت حصيلة الشهداء أكثر من 21672، والجرحى إلى 56165 مصاباً حتى الآن.
باتت الحقيقة أكثر وضوحاً أمام العالم، مؤكدةً أن الاحتلال يرتكب مجازر مروعة، وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وفق معايير القانون الدولي التي تجاوزها الاحتلال بدعم غربي غير مسبوق، و"سقطات أخلاقية" وخذلان عربي وإسلامي وأممي للفلسطينيين في غزة.
مجازر مستمرة
أيام دامية يعيشها سكان قطاع غزة المحاصر، فمنذ 85 يوماً من العدوان، دمر الاحتلال أحياء سكنية على رؤوس ساكنيها، وأزال مئات العائلات من السجل المدني.
بحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، سرق الاحتلال جثامين 80 شهيداً، ثم سلّمها وهي مجهولة الهوية ومُشوَّهة عبر معبر كرم أبو سالم للدفن، ولم يحدد أسماء هؤلاء الشهداء ولا مكان قتلهم.
وبعد معاينة هذه الجثامين تبيَّن أن "ملامح الشهداء مُتغيرة بشكل كبير في إشارة واضحة إلى سرقة الاحتلال أعضاء حيوية من أجساد هؤلاء الشهداء، وأن تأخير تسليمها يأتي في هذا السياق"، بحسب بيان المكتب الحكومي.
قال البيان: إن الاحتلال كرّر هذه الجريمة أكثر من مرة؛ "حيث قام سابقاً بنبش قبور في جباليا "شمال قطاع غزة"، وسرق بعض جثامين الشهداء منها، إضافة إلى أنه لا يزال يحتجز لديه العشرات من جثامين الشهداء من قطاع غزة.
بينما أعلنت وزارة الصحة في غزة عن توقف الخط الطبي الأخير لخدمات الأطفال في القطاع، بعد توقف الخدمات الطبية بمستشفيي الرنتيسي والنصر في غزة، وأوضحت أنَّ توقف مستشفيات غزة وشمال القطاع يحمل الموت لآلاف الجرحى، لا سيما في الأقسام الحساسة، نتيجة عدم توافر الوقود.
ومن جهة أخرى تقول بيانات "الصحة العالمية" إن 30% ممن فقدوا أرواحهم في غزة ماتوا بمناطق جنوب القطاع، التي أدعى الاحتلال أنها لن تُقصف، وطلب من الفلسطينيين اللجوء إليها، في حين أعلن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن 50% من المساكن في غزة دُمِّرت في شهر واحد، وتشير أرقام حكومية في غزة إلى تضرُّر أكثر من 290 ألف وحدة سكنية من جراء الحرب على غزة، منها أكثر من 65 ألف وحدة دمرت كلياً.
أما فيما يتعلق بالنازحين داخل غزة، فبلغ عددهم أكثر من 1.9 مليون نازح، يفتقرون إلى الماء والطعام والدواء، وما جرى هو نزوح داخلي إلى مراكز الإيواء أو نحو منازل الأقارب والأصدقاء.
أما في الجانب الصحي فقد أخرج الاحتلال عن الخدمة 23 مستشفى و53 مركزاً صحياً، واستهدف 142 مؤسسة صحية بشكل جزئي، ودمر 104 سيارات إسعاف بشكل كامل. كما دمر 92 مدرسة وجامعة بشكل كلي، العدد الأكبر من المدارس يتبع "الأونروا"، وكانت تؤوي نازحين، حيث يقيم 730 ألف نازح في 151 منشأة تابعة لها.
دمَّر الاحتلال 285 مدرسة وجامعةً بشكل جزئي، وألحق القصف دماراً بـ126 مقراً حكومياً. ولم تنجُ دور العبادة من القصف الإسرائيلي، حيث دمر الاحتلال 115 مسجداً بشكل كلي، و200 مسجدٍ بشكل جزئي، كما دمر 3 كنائس.
ولا يتوانى الاحتلال عن استغلال أي فرصة لإبادة أي فرصة للحياة داخل غزة، فاستهدف بأسلحته الأكثر تطوراً مصادر الغذاء أيضاً، حيث أدى القصف الإسرائيلي إلى تدمير 40 مخبزاً.
أعداد الشهداء في ازدياد
بشكل يومي تعلن الجهات الرسمية عن ارتفاع أعداد الشهداء والمصابين في قطاع غزة نتيجة استمرار العدوان الإسرائيلي "الهمجي"، فبلغ عدد الشهداء من الأطفال 8800، وارتفع عدد الشهداء من النساء إلى 6300، وعدد الشهداء من الطواقم الطبية وصل إلى 312، كان جزء منهم من الطاقات التخصصية النادرة. وبلغ عدد المفقودين أكثر من 7 آلاف، 70% منهم من الأطفال والنساء. ومن بين الإحصاءات أيضاً استشهد من الدفاع المدني 40 شهيداً، بينما استشهد أكثر من 100صحفي.
وإمعاناً في سياسة الإبادة لا يكتفي الاحتلال بقتل الأبرياء، بل يسعى لإفناء حياة باقي الفلسطينيين الذين لم تطلهم نيرانه، فاعتقل 101 فرد من الكوادر الصحية لشلّ الخدمة الصحية وإعدام أي فرص للنجاة، واعتقل أيضاً 9 أفراد من الصحفيين، ظناً منه أنه قادر على طمس حقيقة جرائمه.
ومع استمرار صمت العالم، الذي يصل إلى حدّ التواطؤ، تتبدَّد كل يوم سبلُ النجاة في غزة؛ إذ تفيد الإحصائيات أيضاً بوجود 50 ألف سيدة حامل يعانين من العطش وسوء التغذية والرعاية الصحية في مراكز الإيواء، بينما يتعرض أكثر من 50% من أطفال غزة للجفاف وسوء التغذية والأمراض التنفسية والجلدية والبرد القارس وعدم توافر التطعيمات للمواليد.
الصورة لحظة بلحظة
على مدار الأيام الـ85 من العدوان الإسرائيلي على غزة، بقيت شاشات التلفاز عربية ودولية في بث متواصل لا ينقطع، كحال قناة "الجزيرة القطرية"، التي تنقل القصف المستمر الذي لا يتوقف لحظة، وتلك الصور المرعبة من ضحايا القصف.
"واشنطن بوست" قالت في الشهر الثاني من الحرب إن مئات الصحفيين المحليين في قطاع غزة ظلّوا على مدار أسابيع ينقلون للعالم روايات شخصية عن الدمار الذي طال حياة المواطنين ومنازلهم في قطاع غزة. وبينما تنقل الشاشات ووسائل الإعلام المختلفة الفظائع في القطاع المحاصر، يسقط باستمرار صحفيون فلسطينيون شهداء ومصابين، فضلاً عن تعرضهم للاعتقالات.
ورغم أن وسائل الإعلام الغربية أظهرت انحيازاً شبه كامل للاحتلال خلال الأحداث الأخيرة، وبررت كل الانتهاكات التي قام بها جيش الاحتلال ضد قطاع غزة وسكانه، فإن توجهات الإعلام الغربي بدأت تتسم بدرجة ما بالتعاطف مع غزة، بعد الضغط الذي تعرضت له من شعوب العالم. بدأ الاحتلال يدرك أيضاً أنه بدء يخسر دعم سرديتة الزائفة.
إعلام رقمي واحتجاجات
مع مرور الوقت، ومع قيام الاحتلال بالتدمير الممنهج للبنية التحتية بالقطاع، والتوسع في استخدام العنف المفرط ضد المدنيين الفلسطينيين، وفرض نزوح داخل القطاع، بدأ الرأي العام الغربي يشهد قدراً ملحوظاً من التعاطف مع الفلسطينيين.
وكانت الاحتجاجات التي اكتظت بها الساحات دليلاً على تزايد الغضب الشعبي الدولي، إزاء الصمت العالمي الرسمي عن الجرائم في غزة، حيث شهدت معظم دول العالم احتجاجات ضد العدوان الإسرائيلي، كان أكبرها في واشنطن ولندن وإسطنبول وجاكرتا.
وفي مواقع التواصل الاجتماعي كسر المتضامنون مع غزة القيود التي تفرضها تلك الشبكات، على ما تسميه أي "محتوى غير قانوني"، وأصبح المحتوى الداعم لفلسطين هو الأكثر تأثيراً وانتشاراً، رغم الانحياز الفجّ من قِبل تلك المنصات.
فالحرب ضد غزة عرَّت مزاعم العالم حول حرية التعبير والشفافية والحيادية، التي لطالما ادّعتها هذه المنصات، وكشفت تحيزها الواضح، وتقييدها للمواد التي تكشف حقائق ما يمارسه الاحتلال الإسرائيلي من فظائع ضد الفلسطينيين.
ومقابل هذه التقنيات المتطورة التي تستعملها هذه المنصات من خلال تطويع الخوارزميات، ابتدع النشطاء "حيلاً" من أجل الاستمرار في دعم القضية الفلسطينية، من خلال كتابة كلمات مثل: فلسطين، وغزة، والمقاومة مقطعة، أو كتابة بعض حروفها باللاتينية، أو التلميح بها بطريقة غير مباشرة، وأصبحت مواقع التواصل تكتظ بالصور والفيديوهات التي تنقل الصور المأساوية في غزة للعالم.
دعم الاحتلال
كانت دول عديدة داعمة للاحتلال بالبداية، لكن الغارات الجوية والعدوان على غزة، والهجوم البري بذريعة "القضاء" على حركة حماس، أثارت انتقادات واسعة النطاق، ما يشكل ضغطاً على رغبتها في استمرار دعم الاحتلال، إذ تفقد صورتها الزائفة أمام شعوبها العالم.
بالإضافة لذلك، زادت عنجهية الاحتلال وغطرسته، لدرجة أنه عندما اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يدعو إلى "هدنة إنسانية فورية ودائمة ومستدامة" في غزة، انقضَّ وزير خارجية الاحتلال إيلي كوهين، واصفاً بكل عجرفة قرار الأمم المتحدة بأنه "حقير"، بينما يستمر جنود الاحتلال بارتكاب كل حقارة في غزة.
منذ ذلك الحين يمكن القول إن بعض الدول بدأت ترفع صوت انتقاداتها لإسرائيل، بينما استدعت دول أخرى سفراءها، ومنها من قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع تل أبيب، وحتى الولايات المتحدة، التي صوتت ضد قرار وقف إطلاق النار خفّفت من موقفها بسبب الضغط الشعبي، فدعا رئيسها بايدن إلى "وقف مؤقت" للقتال، لكن مؤكداً استمرار دعمه الكامل لإسرائيل بكل الإمكانات المادية والأسلحة والقوات.
لكن رغم كل هذا الشجب والإدانة تقف المنظومة الدولية بهياكلها وأجهزتها القضائية عاجزة عن ردع هذه الجرائم وملاحقة مُرتكبيها، في سقوط أخلاقي واضح، فبينما يستمر الاحتلال في ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، تستمر المؤسسات الدولية في عدم اتخاذ أي موقف حقيقي يردع الاحتلال وبلطجته على العالم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.