أعادت معركة طوفان الأقصى الصراع الإسلامي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية إلى الواجهة، وقد تصدى العديد من الكُتاب والمفكرين لطرحها من خلال مقاربات مختلفة سواء بتقديمها من المنظور السياسي أو التاريخي أو القانوني، غير أن طرح الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن جدير بالعرض والاهتمام.
يرى عبد الرحمن أن هذه المقاربات لا تكفي للإحاطة الكافية الوافية بالصراع وذلك لخصوصية الإنسان الفلسطيني، إذ على أرضه كانت حادثة الإسراء والمعراج، فكانت الأرض بذلك ملتقى العوالم، عالم الغيب وعالم الشهادة، وكان إرثه ملتقى الأبعاد، البعد الزماني والسرمدي، وأياً من المقاربات السابقة لا تغطي كل هذه الخصوصية مجتمعة، وهو ما يصنع خطأً في التصور أحياناً، وقصوراً في الطرح وعند المتلقي أحياناً أخرى.
وللوقوف على حقيقة الصراع وطبيعة ما يلقاه الفلسطيني من أذى يقدم عبد الرحمن تفسيراً من خلال مقاربة فلسفية أخلاقية أطلق عليها المقاربة الائتمانية أساسها أن لكل شيء بُعدين، الصورة وهي المظهر الخارجي، والروح وهي المظهر الداخلي، والروح هنا تكون هي أصل الصورة التي هي تعبير عن الروح. ووفق هذه المقاربة نجد أن الأذى على الإنسان الفلسطيني يقع في صورتين، الأولى احتلال الأرض وروح تلك الصورة إيذاء الإله، والثانية إيذاء الإرث الفطري وروحها إيذاء للإنسان. فكيف يكون إيذاء الاحتلال للإله وللإنسان؟
احتلال الأرض المقدسة وإيذاء الإله
يتجلى إيذاء الإله في صورة احتلال الأرض بمنازعة الإله في صفته المالك، فالله هو المالك المطلق، لكن يأبى الإسرائيليون إلا أن يكونوا هم المالكون وغيرهم مملوكون.
وقد استبد حبّ التملك بقلوبهم وسلكوا في سبيله كل الوسائل من أجل انتزاع الأرض المقدسة، لا يبالون بالحقوق والعهود والقوانين، وفي سبيل التملك والسيطرة على الأرض استولوا بالقوة على الأرض عامة وخاصة، وعلى ما فوق الأراضي من منابع ومنازل وما تحتها من حفريات أو أساسات.
كما يتبعون أساليب عديدة تمكّنهم من التملك ببناء المستوطنات والجدران وتطبيق القوانين الإسرائيلية وممارسة الطقوس اليهودية، ويعدون كل أرض يصلوا إليها ملكاً لهم، بل وكل أرض وطئها أسلافهم من قبل، كما يتسلطون على الأماكن المقدسة وعلى قدر قداسة المكان المحتل يكون شعورهم بالتملك، وهو ما يشعرهم بالوصول إلى مبتغاهم بمنازعة الإله.
إيذاء الإنسان وإفساد الفطرة
تتجلى الصورة الأخرى للأذى باحتلال فطرة الإنسان التي بها يصنع إرثه وتاريخه عبر إفسادها وجعلها تقبل باحتلال الأرض واغتصابها وتجريفها وتدميرها، ويكون ذلك عبر درجتين من الحلول والإفساد: قلب القيم وهو حلول جزئي وسلب الفطرة وهو حلول كلي.
قلب القيم والإخلال بعلاقة الفلسطيني بالزمان والمكان
يتم عبر فصل الإنسان الفلسطيني عن بعض القيم الفطرية حتى يتسنى لهم العبث بقدرته على التقويم الصحيح، ويتمثل هذا العبث في حمله على الانتقال من القيم الفطرية إلى أضدادها فيرى الحق باطلاً والباطل حقاً.
ويتم هذا عبر ثلاثة أنواع من الإفساد أولها إفساد الذاكرة عبر جعل الفلسطيني ينسى قيمه ومعتقداته ومقدساته أو يتخلى عنها أو تفتر همته تجاهها، ومثال ذلك جعله يغير موقفه من المسجد الأقصى عبر بث الشائعات والقصص المكذوبة فيفسد بذلك علاقته بماضيه. والنوع الثاني إفساد الثقة بالذات بجعله ييأس من دفع الظلم فيستسلم لمصيره أو ييأس من جدوى المقاومة طريقاً لاسترجاع حقوقه ومقدساته بل يصل بالبعض ليراها إرهاباً وليس دفاعاً وذلك عبر تيئيسه من الواقع بالاعتقاد بأن العلاقات بين الناس تحكمها المصالح وبالتالي يفسد علاقته بحاضره، والنوع الثالث إفساد التوجه والعلاقة بالمستقبل بجعله يضطرب في أولوياته بين خيارات متناقضة ويستغرق في مصالحه الخاصة، ومتى اختلت العلاقة بالزمان في أبعاده الماضي والحاضر والمستقبل اختلت كذلك علاقته بالمكان، إذ هو مقياس من مقاييس المكان.
سلب الفطرة بالتطبيع
إذا كان قلب القيم هو فصل بعضها عن الفطرة واستبدالها بأضدادها فإن سلب الفطرة هو الصورة الأوسع للإفساد، إذ هو اجتثاث للقيم واستئصالها بحيث يكون الإنسان بلا فطرة وتتجلى هذه الحالة فيما يسمى التطبيع الذي يورث أصحابه ضياع فطرتهم وذواتهم ومزاياهم الإنسانية، وهو ما يعمل عليه الإسرائيلي.
ولقد أريد بالتطبيع أن يكون وجود الكيان مشروعاً غير أن هذا الوصف لا يصح إلا إذا كان يُراد منه المعنى المضاد، كما تستخدم في العربية صيغة التفعيل التي على وزنها التطبيع وتعطي معنيين منها المعنى المضاد كالتمريض تعني صيره مريضاً أو أزال عنه مرضه، وفي التطبيع أي إزالة الوصف الطبيعي عمن ارتبط بالكيان فتصير الدول المطبعة تلك التي ارتبطت بالكيان بعلاقات غير طبيعية فيتلبس المطبع حالة غير الطبيعي، وهو أول ما يسلبه التطبيع من صاحبه.
كما يضيع التطبيع الروح، إذا يقتلع الإسرائيلي فطرة المطبع ويجتثها، والفطرة جوهر الروح، فإذا انتزع الجوهر انتزعت الروح.
وصور ضياع الروح استبدال المطبع إرادته بالإرادة الإسرائيلية ويقصد بها الإرادة المؤسسة على الفكرة الصهيونية والثقافة والسياسة الإسرائيلية، وهي أدنى إذ تحمل قيماً مضادة للفطرة فيكون قد استبدل الإرادة الدنيا بفطرته التي هي أعلى.
كما قد بُنيت الإرادة الصهيونية على الأساطير والأباطيل، وهذا مضاد للفطرة التي تبنى على الحقائق فتطاول الإرادة الإسرائيلية وعلوها على المطبع يحجب عنه الحقائق فتفسد روحه.
بينما المعرفة الإسرائيلية التي هي مجموع القيم العلمية والتقنية التي يسعى المطبع إليها ويتخلى عن فطرته من أجلها يحرص الإسرائيلي أن يمنعها عنه بحكم منطق الاحتلال وخوفاً من أن يطاول عليه يوماً ما ويحرر نفسه.
كذلك يضيع المطبع القداسة، حيث إنه يطبع نفسه على الاعتقاد بأن الأماكن المقدسة ليست مقدسة أو ليست بالقداسة المظنونة فيستوي عنده احتلال الإسرائيلي لها ولغيرها بل يستوي عنده تسليمه لها ولغيرها طواعية، وصورة أخرى من تضييع القداسة هو تؤول الآيات القرآنية على غير وجوهها، إذ يشتغل المطبع بحذف السور التي تحكي أخبار اليهود ونكثهم للعهود وقتلهم الأنبياء، كما يتجرأ على ركن الجهاد فيصفه بالإرهاب ويصير هكذا بدون توقف حتى يصير الأمر طبعاً له وسجية.
وأخير بجانب تضييع الطبيعة والروح والقداسة يضيع المطبع الحياء، إذ الأصل في وجود التطبيع هو ضياع الحياء وفقدانه لأنه تعاطٍ مع عدو ظاهر للفطرة، وتتجلى وقاحة المطبع وضياع حيائه في مظاهر عديدة منها: عدم استحيائه من الله ومن الناس، كما يعمل على جعل الناس مثله، ولا يرضى عنهم إلا بذلك، وهو هنا متعدٍّ في وقاحته غير مقتصر على نفسه.
كما أنه يفقد الضمير والواعظ الأخلاقي بحلول الإرادة الإسرائيلية به واضمحلال فطرته واستبدال القيم بأضدادها من المقدس للمدنس، ومن المعاداة للموالاة، ومن الحق للقوة، وهو ما يفسد ملكة الحكم لديه. وأيضاً يمارس النفاق وهو نفاق يمارسه على أوسع نطاق، حيث ينافق بني جلدته وعقيدته خوفاً منهم وعجزاً عن المواجهة، كما ينافق أهل إسرائيل استعطافاً لهم وتقرب إليهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.