منذ بداية الحرب على غزة لم نشهد من المسؤولين الحكوميين الإسرائيليين أي تصريحات واقعية، سواء بالنسبة إلى الوضع العسكري والفشل الذريع للعملية العسكرية في الجانب الشمالي والجنوبي من قطاع غزة، أو حتى تصريحات واقعية حول تراجع الدعم السياسي لهذا العدوان على المستوى العالمي وارتفاع تكلفة الحرب السياسية لإسرائيل. منذ أيام ولأول مرة، خرج مسؤول إسرائيلي بتصريح واقعي للغاية، ويعبر عن الحالة الواقعية السائدة في إسرائيل، حيث صرّح رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق "دان حالوتس"، قائلاً إنّ إسرائيل خسرت الحرب ضد حماس وإن صورة النصر الوحيدة التي ستتحقق هي الإطاحة برئيس الوزراء نتنياهو.
الإطاحة بنتنياهو من الجانب النظري إلى الجانب العملي
منذ بداية الحرب على قطاع غزة، كان من الصعب تصور الحديث عن إقالة نتنياهو أو الإطاحة به، وذلك لأن إسرائيل حاولت أن تُظهر نفسها متماسكة في أكبر حملة وهجمة تعرضت لها في تاريخها. إلا أنّه وبعد الفشل العسكري الذريع في قطاع غزة، وبعد الفشل في تحرير الرهائن والمحتجَزين الإسرائيليين، بدأت أصوات المحافل السياسية تتعالى، مطالبة بالإطاحة بنتنياهو. ولعل أول هذه الأصوات جاء من حزب نتنياهو نفسه. إذ، وبحسب القناة 13 الإسرائيلية، فإن وزراء وأعضاء في الكنيست الإسرائيلي من حزب الليكود ناقشوا الإطاحة بنتنياهو عبر التصويت بحجب الثقة عنه. عندما نتحدث عن جهود داخل حزب الليكود للإطاحة بنتنياهو، فنحن نتحدث عن جهود سياسية داخلية، ولكن الأيام الماضية شهدت تحولاً مهماً في المشهد الإسرائيلي، خصوصاً بعد التصريحات التي أدلى بها "حالتوس"، رئيس الأركان السابق في الجيش الإسرائيلي، إذ تظهر هذه التصريحات أن هناك تغييراً قادماً في استراتيجية الإطاحة بنتنياهو من الجهود السياسية داخل الأحزاب إلى إمكانية نشوب حرب أهلية أو حتى انقلاب عسكري للإطاحة بالرجل الذي يتم تحميله كامل المسؤولية عما جرى في مستوطنات الغلاف في السابع من أكتوبر، وما يجري حالياً من غرق في مستنقع غزة.
علينا القول إنّ هذه التصريحات من أكثر التصريحات خطورة وواقعية في إسرائيل، إذ إنها تأتي عبر أكبر مسؤول عسكري سابق، وذلك لأن عدم التواجد في الحكومة الإسرائيلية يوفر لهذا المسؤول بعض الحرية للإدلاء بتصريحات قد تصدم المجتمع الإسرائيلي. ثم إن تصريح "حالوتس" يبتني على الوقائع والحقائق، إذ إنه يشير خلال مؤتمر "حركة الاحتجاج الإسرائيلية في حيفا، إلى أنه لن توجد صورة للنصر في الحرب، بل هي صورة للخسارة فقط، وذلك بسبب وجود أكثر من 1300 قتيل (مع تزايد مستمر) و240 مختطفاً و200 ألف لاجئ.
ليست تنبؤات بل تجارب
إنّ الحالة التي يصفها "حالتوس" هي توصيف لخبرته السابقة في قيادة الأركان، وهو الشخص الذي تم تحميله المسؤولية الكاملة عن فشل حرب تموز 2006 في لبنان، وتمت معاملته ككبش فداء لتلك العملية. إن مطالبة "حالتوس" لنتنياهو بالاستقالة تنبع من مقارنة حجم الفشل في 2006 في لبنان و2023 في غزة. إذ وصل حجم القتلى في صفوف إسرائيل خلال العام 2006 إلى 121 قتيلاً عسكرياً و44 مدنياً، بينما حطمت المقاومة الفلسطينية جميع إحصائيات الحروب الإسرائيلية، ولا تزال إسرائيل تراوغ حول العدد الحقيقي لخسائرها البشرية والتي وصلت بحسب الإحصائيات الرسمية الإسرائيلية إلى ما يقارب 500 قتيل بين ضباط ومجندين فقط خلال العملية البرية في غزة، وكل ذلك دون الأخذ بعين الاعتبار 1300 قتيل خلال طوفان الأقصى، والذين كان أغلبهم من العسكريين.
وللمرة الأولى تم الحديث عن احتمالية نشوب حرب أهلية في إسرائيل، ويبدو أن الجميع يتحضر لمثل هذه الحرب، خصوصاً أن "حالتوس" قال إن الصراع سيكون صعباً مع الحكومة، وقد تُراق الدماء في الشوارع، لأن كتائب بن غفير مسلحة.
بالإضافة إلى جميع المؤشرات السابقة، يبدو أنّ بن غفير منشغل بالفعل في بناء وإنشاء ميليشيا خاصة به، ويعمل على تسليح هذه الميليشيات بشكل كامل، ويبدو أنه يتحضر لمرحلة جديدة من الفوضى في إسرائيل.
كيف سيبني العرب والفلسطينيون استراتيجياتهم في التعامل مع إسرائيل؟
إن الانقسامات الحادة في المجتمع وبنية النظام في إسرائيل تعتبر في أوجها، وعليه يجب على كل من العرب والفلسطينيين أولاً أن يفهموا عمق هذه الانقسامات، ومن ثم يبنون عليها سياساتهم المستقبلية. يجب على الفلسطينيين أن يدركوا جيداً هذه التحولات والانقسامات العميقة في إسرائيل، وأن يبنوا عليها مواقفهم، لأن هذا الفهم سوف يوفر لهم موقفاً أقوى في التفاوض، وعليهم كذلك أن يصرّوا على وقف إطلاق النار للبدء في عملية تبادل الأسرى، وذلك لأن وقف إطلاق النار يوفر للسكان المدنيين في غزة استراحة من حرب دمرت وقتلت أحبتهم، وعليهم كذلك أن يدركوا أنّ عملية التبادل تحولت إلى قضية رئيسية ومحورية في النقاش الإسرائيلي، وهي ضرورة لا يستطيع نتنياهو أن يتجاهلها، كما ستكون لهذه الانقسامات وإمكانية تحولها إلى حرب أهلية تأثير على مستقبل قطاع غزة وأهله وعلى المفاوضين استثمارها بشكل كبير.
وأما عربياً، فإن الملف الإسرائيلي ينعكس على ملفي التطبيع وزعزعة الاستقرار في المنطقة. وعليه فإنّ على من أراد التطبيع مع إسرائيل أن يتريث أو يفكر في إلغاء عملية التطبيع بشكل كامل، وذلك لأن هذه العملية هي رهان على الحصان الخاسر. وأما عن المشاريع الاقتصادية فلا يوجد مستثمر عاقل يستثمر في بيئة خطرة. وللإشارة إلى مثال واضح علينا القول إن مشروع "نيوم" الواعد الذي طرحه ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، يبعد عن الرياض 1100 كيلومتر، ويبعد ساعتين فقط عن الأراضي الإسرائيلية غير المستقرة أمنياً، ومن المتوقع أن تنشط الشركات الإسرائيلية في تنفيذ هذا المشروع في مجالات مختلفة، منها: الطاقة الشمسية، وأنظمة البيانات والمعلومات، وغيرها من القضايا. وينظر الإسرائيليون إلى هذا المشروع بأكثر من مجرد مشروع استثماري، بل هو مشروع لنفوذ جيوسياسي إسرائيلي، وهذا ما عبّر عنه شمعون بيريز، الرئيس السابق للاحتلال الإسرائيلي حین قال إن مشروع مدينة نيوم سيربط إسرائيل بالبحر الأحمر، مروراً بالسعودية، ومن ثم شرقاً، وسيجعل من إسرائيل الاقتصاد الرائد في المنطقة. وذكر كذلك أنه ليس لدى إسرائيل فرصة بالتطبيع السياسي مع القادة العرب، وعليه فيجب الاستثمار في التطبيع الاقتصادي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.