مرَّ أكثر من شهرين ونصف الشهر على بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول، ومع ذلك لا يزال العالم مشغولاً بالحرب وتداعياتها. وقد تباينت المنظمات الدولية والدول في خطابها ومنهج تعاملها مع هذه الحرب وفقاً لمصالحها، أما المجتمعات والشعوب، فقد استجابت للحرب بطرق مختلفة عن وسائل الدول. وقد باتت المظاهرات ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي أبرز وسيلتين للتعبير عن ردِّ فعل الناس على ما يحدث، وصارت هاتان الوسيلتان مقياساً يمكن الاستدلال به على آراء هذه المجتمعات في الحرب الجارية. وقد رأينا مظاهرات حاشدة لتأييد الفلسطينيين في بعض الدول الإسلامية بطبيعة الحال، إلا أننا رأينا احتجاجات لا تقل كثافة في بعض الدول الغربية أيضاً.
ولما كانت الولايات المتحدة من أكثر الدول الغربية تعقيداً في تركيبتها العرقية، فليس من المستغرَب أن نشهد فيها خطاباً مؤيداً للفلسطينيين، وآخر مؤيداً لإسرائيل، إلا أنه كان من المثير للانتباه أن هذه الحرب كشفت كذلك عن تزايد ملحوظ في تأييد الفلسطينيين بين شرائح المجتمع الأمريكي.
ما الذي تكشفه لنا استطلاعات الرأي؟
أُجريت استطلاعات رأي عديدة في الولايات المتحدة لاستكشاف اتجاهات الرأي العام في الحرب الجارية بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وكشف استطلاع أجرته شركة "يوغوف" YouGov في أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول عن أشياء مهمة، منها أن الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين من الإسرائيليين في الصراع الحالي، ويعني ذلك أن معظم الشباب في الولايات المتحدة يميلون إلى تأييد الفلسطينيين. وأشار الاستطلاع كذلك إلى أن نسبة 28% من الشباب في هذه الفئة العمرية يرون أنفسهم مؤيدين للفلسطينيين، و20% منهم مؤيدين لإسرائيل، ونسبة 31% منهم متعاطفون مع الطرفين بالمقدار نفسه.
أما إذا أردنا أن نستكشف آراء سكان الولايات المتحدة في عمومهم، فيمكننا أن ننظر في الاستطلاع الذي أجرته مجلة The Economist البريطانية وشركة YouGov في المدة من 25 إلى 27 نوفمبر/تشرين الثاني، وقد أظهر هذا الاستطلاع أن 38% من الأمريكيين يؤيدون الإسرائيليين، وبلغت نسبة تأييد الفلسطينيين 11%، وقال 28% من المشاركين إن تعاطفهم مع الجانبين متساوٍ، فيما قال 23% من المصوتين أنهم ليس لديهم رأي حاسم في الأمر. وكشف استطلاع أجراه مركز "بيو" Pew للأبحاث أن 35% من الأمريكيين يرون أن الحكومة الإسرائيلية هي المسؤولة عن اندلاع الحرب بين حماس وإسرائيل، في حين يرى 65% من المشاركين في الاستطلاع أن حماس عليها اللوم الأكبر في اندلاع هذه الحرب.
لماذا يؤيد الشباب الأمريكي فلسطين ويؤيد كبار السن إسرائيل؟
إجمالاً، تشير نتائج استطلاع الرأي، التي أسلفنا ذكرها، إلى أن غالبية الشباب الأمريكيين يؤيدون الفلسطينيين، أما غالبية الأمريكيين الأكبر سناً فهم يؤيدون إسرائيل. وقد أسهمت عوامل عدة في صياغة هذه الآراء، وتباينها إلى اتجاهين مختلفين في نظرة الشباب وكبار السن نحو هذه الحرب، وأبرز هذه العوامل هي:
أولاً، إسرائيل لديها رصيد تاريخي طويل من التأييد في المجتمع الأمريكي، فقد تشكَّل في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وما شهدته من فظائع بحق اليهود في أوروبا، شعور قوي لدى المجتمعات الغربية بأن العالم مدين لليهود بالتكفير عن ذنبه نحوهم. ولهذا السبب، انتشرت في كثير من الدعاية الرائجة آنذاك المشاعر المناهضة لمعاداة السامية والرأي القائل إن إسرائيل هي الملجأ الوحيد لليهود في العالم. وربما لم يشهد كبار السن في الولايات المتحدة المحرقة بأنفسهم، إلا أنهم كانوا أحياء حين تكشفت للعالم آثارها، وقد رسَّخ ذلك من موقفهم المؤيد لإسرائيل. كما أن بعضهم اطَّلع من بعيدٍ على شيء من أخبار الحروب العربية الإسرائيلية في ذلك الوقت، وانطبع على تصورٍ، مفاده أن إسرائيل اجتهدت لبلوغ السلام مع فلسطين (والعرب) آنذاك، وهؤلاء ما زالوا يرون أحداث اليوم بناء على التصور ذاته، ويُعادون الفلسطينيين على أساسه.
في المقابل، فإن الشباب في الولايات المتحدة نشأوا وهم يتابعون أحداث المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي، مثل الانتفاضة الثانية في مطلع الألفية الثالثة، وشهدوا إجراءات الاضطهاد الإسرائيلي، مثل حصار غزة وإنشاء الجدار العازل في الضفة الغربية، ومن ثم فإن هؤلاء الشباب أقدر على النظر فيما يحدث بناء على تصور أكثر مجاراة لما يحدث في الوقت الحاضر، والتفكير في الفظائع الإسرائيلية تفكيراً مستقلاً عن عقدة الذنب المرتبطة بالمحرقة.
ثانياً، يمكن القول إن التعاطف المتزايد مع محنة الفلسطينيين بين الشباب الأمريكي متأثر كذلك بالاستجابة للأحداث العنصرية التي وقعت في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، وسهولة الربط بين هذه الأحداث وما يتعرض له الفلسطينيون على أيدي الإسرائيليين. فهم يرون إسرائيل دولة تنتهج القمع، وأن القضية إنما هي قضية "حكومة جائرة وشعب مظلوم". ومن ثم، فالعلاقة واضحة بين موقف الشباب الأمريكي المناهض لتصرفات الشرطة ومسؤولي الدولة بحق السود الأمريكيين (كما هو الحال في حركة "حياة السود مهمة" مثلاً)، وبين مناهضة هؤلاء الشباب أنفسهم لتصرفات إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني. وقد تجلى هذا الارتباط حين استمد الأمريكيون الفلسطينيون من خبرتهم في مواجهة القمع الإسرائيلي، وأخذوا ينشرون تغريدات يُحدِّثون فيها الأمريكيين الأفارقة في حركة "حياة السود مهمة" عن أحسن السبل لتقليل آثار الغاز المسيل للدموع الذي تطلقه عليهم الشرطة الأمريكية. فقد تكشَّف للعيان حينها أن الأمريكي والفلسطيني ليسا إلا ضحيتين يجمعهما الوقوع تحت اضطهاد دولتين مختلفتين.
وأخيراً، فإن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بين الشباب، من أهم العوامل المؤثرة في تباين الآراء بين الشباب والكبار الأمريكيين بشأن الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين. فالشباب أكثر تعرضاً لوسائل التواصل الاجتماعي، وكثير منهم يراها مصدره للأخبار، وليس وسائل الإعلام التقليدية مثل التلفزيون والصحف. أما كبار السن في الولايات المتحدة، فهم ما زالوا يفضلون وسائل الإعلام التقليدية، ويتلقون أخبارها المتأثرة بسياسات الحكومة وميول أصحاب رأس المال، ومن ثم يفكرون بالطريقة التي يريد منهم هؤلاء أن يفكروا بها. ويؤدي هذا بطبيعة الحال إلى استمالة كبار السن في الغالب إلى تأييد إسرائيل، أما الشباب فإن انصرافهم عن وسائل الإعلام التقليدية يجعلهم في الغالب مؤيدين للفلسطينيين.
ما الذي سيعود علينا من تزايُد الوعي بالقضية الفلسطينية في الولايات المتحدة؟
ذكرنا أن هناك وعياً متزايداً بالقضية الفلسطينية بين الأمريكيين، وتعاطفاً متنامياً مع الفلسطينيين، وخاصة بين الشباب الأمريكي، ولكن السؤال هنا: هل يكون لهذا الوعي والتعاطف تأثير حقيقي في سياسات الحكومة الأمريكية؟ إذا قارنا بين نسبة المسلمين واليهود من المواطنين في الولايات المتحدة، نرى أن نسبة المسلمين تبلغ نحو 1%، أما نسبة اليهود فتبلغ 2.4%. وهذا التباين وحده يكفي لإحداث فرق كبير بينهما من حيث النفوذ والتأثير في سياسات الحكومة، أي فارق لمصلحة اليهود بطبيعة الحال. وصحيح أن الشباب المؤيدين للفلسطينيين ليسوا كلهم مسلمين، إلا أنه من المرجح أن يكون هذا الفارق السكاني من أبرز العوامل التي يهتم بها المرشحون الرئاسيون في تحديد ميولهم.
وعلى الرغم من تزايد تأييد الفلسطينيين بين الشباب الأمريكي، فلا يخفى على أحد أن تأييد إسرائيل لا يزال أعلى من تأييد الفلسطينيين في العموم. وأهم أسباب ذلك هو الشراكة الاستراتيجية والجيوسياسية المستمرة بين الولايات المتحدة وإسرائيل ورجال الأعمال اليهود الذين ينشطون في العاصمة الأمريكية. فرؤوس الأموال لها نفوذ لا يُبارى في النظام السياسي الأمريكي. ولذلك، فإن المؤسسات السياسية الأمريكية، ومنها الرئاسة الأمريكية ومجلس الشيوخ، لا تتردد في التصريح بدفاعها عن اليهود وحتى الأيديولوجية الصهيونية، حتى لا تُحرم الدعم والتمويل. وينعكس هذا التأييد في آراء الجمهور، خاصة وأنه ينتقل إليهم مباشرة عبر المؤسسات والقنوات الإعلامية، التي تحصل كذلك على الدعم من الجهات ذاتها. وعليه، فليس من المستغرب أن يكون تأييد إسرائيل أكثر انتشاراً في الولايات المتحدة، حيث المال هو العامل الوحيد الذي يحتشد حوله الجميع، وليس القومية ولا الأيديولوجيا.
ومن ناحية أخرى، فإن الولايات المتحدة صاغت سياساتها الأمنية في العالم بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول على أساس العداء لما يُعرف بـ"الإسلام الراديكالي"، لذا يصعب للغاية أن تتمكن فصائل المقاومة الفلسطينية -بقيادة حركة حماس ذات الجذور والأيديولوجيا الإسلامية- من حشد مؤيدين لها في أمريكا. وعلى الرغم من أن إسرائيل دولة شرقية واليهود مجتمع شرقي، فإن بنية الدولة الإسرائيلية وعلاقاتها الوثيقة مع الغرب تجعل منها دولة علمانية، ومن ثم غربية (بل أشبه بدولة استشراقية!) في الشرق الأوسط.
ولسببٍ ما، لا ينزعج الغرب من التناقض العميق الذي ينطوي عليه تعريف إسرائيل بأنها دولة علمانية، مع أنها دولة تقوم سياستها على عقائد دينية مثل الصهيونية. وبالنظر إلى نجاح المؤسسة الأمريكية في نشر الآراء التي تتبناها بين الجمهور وأن آراء الناس من خارج المؤسسة لا تنعكس في سياسات الحكومة على أي نحو، فإني أستبعد أن تكون القضية الفلسطينية عاملاً بارز التأثير في الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، وإن كنت أتوقع مع ذلك أن نرى -ولو في الخطاب على الأقل- مواقف أقل حدة في تأييد إسرائيل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.