"إذا كان لا بد أن أموت فليأتِ موتي بالأمل فليصبح حكاية".
الشهيد الدكتور رفعت العرعير
يميل البشر إلى الاعتقاد بأنّهم يسيطرون على بيئتهم، وينظرون إلى أنفسهم كونهم أسياداً لقدرهم، ويشعرون بالانزعاج عندما تسير الأمور بغير إرادتهم، إذ أحياناً يطغى الاعتقاد عليهم بأنّ الأمور لا تُساق أبداً عبر الصدف.
هذا الأعتقاد الذي يمكن اعتباره متطرفاً في العقلانية يحيل أغلبنا إلى اعتقادات عديدة خاطئة عن الحياة، منها الحرب، إذ نظن أن الحرب ظاهرةٌ إنسانيةٌ يمكن السيطرة عليها والتنبؤ بمُجرياتها، مما يدفعنا أحياناً إلى جعلنا نؤمن بأن الضعفاء وفقاً لتقديراتنا هم ليس إلا مهزومين مسبقاً.
بينما يرى الجنرال والمؤرخ الحربي كارل فون كلاوزفيتز أن الحرب على العكس من ذلك تماماً، فرغم محاولة عقلنتها وحسبتها، فهي لا تتبع قوانين التناسب والتكامل، ولا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال إدراكها بالعقل الحسابيّ وتحليلها بشكل كامل، إذ يقول في أحد تعريفاته عن الحرب: "إنّ الحرب كالحِرباء التي تغيّر من لونها كلّ لحظة، وهي تشكّل في عموميتها ثالوثاً يتكون من: أولاً، العنف الخالص، والحقد والعدائية التي يمكن اعتبارها غريزةً عمياء تقود هذا الصراع من أجل البقاء. ثانياً، الاحتمالات المفتوحة والصُّدفة التي تشكّل فاتحةً للإبداع. وأخيراً، الإرادة السياسية التي تحيل إلى مستوى آخر ليس أقلّ تعقيداً من ميدان الحرب الفعليّ. ويضيف: "إن النظرية التي تتجاهل أياً من هذه المكوّنات، ستضع نفسها على الفور في تناقضٍ مع الواقع، وبالتالي، هي نظريّةٌ باطلة".
هذا الكلام لا يعني بالطبع فصل الواقع عن الأفكار، وهدم كل المحاولات لتخطيط الاستراتيجي للحرب أو بناء نظريةٍ صلبة للمجريات وتقديرات لموازين القوة، بل يفتح الباب لفهم أوسع للحرب لا بمنظور رومانسي بل بمنظور أكثر واقعية لا يختزل الإنسان في جانبه المادي فقط، فالحرب في الميدان لا تأتي كالحرب المرسومة على الورق، فلا يمكن تجاهل عوامل أساسية كالصدفة والاحتكاك وغيرها من العوامل التي تميّز الحرب الحقيقة عن المتخلية، إذ يمكن أن نعتبر ببساطة أن الحرب أقرب لعملية فوضى منظمة، لذلك لا يمكن أن يسيطر عليها بما هو منطقي ونظري فقط، فبالنظر إلى أي حرب سنجد تفاعلاً دائماً متبادلاً بين الإمكانيات والاحتمالات، والحظّ الجيد والحظّ السيئ، ويمكن الاستدلال على ذلك بحروب كثيرة في التاريخ الحديث منها والقديم.
لا يعني مفهوم الصدفة عند "كلاوزفيتز" بأيّ حالٍ من الأحوال تجاهل الأسباب وتجاوز التحليلات بقدر ما هو ملاحظة للقصور البشري ومحدوديته أحياناً في استيعاب الأسباب، إذ من الممكن أن تؤدي المشاكل الصغيرة إلى حالةٍ من التوتّر العامّ. وهو عملياً ما يُعرَف بأثر الفراشة أو نظرية الفوضى: حين تنفجر أحداث كبيرة نتيجة لتجمع أسباب متناهية الصغر. والحرب كما كل الأشياء في الحياة، مترابطةٌ ومهما كانت بساطة الأسباب أو حجمها، ستؤثّر بشكلٍ ما على مُجرَيات الحرب وتغيّر من النتائج إلى حدٍّ ما.
ولعلّ ما أورده الكاتب الأمريكي جايمس غليك في كتابه نظرية الفوضى مثالٌ على ذلك، باقتباسه أغنيةً فلكلوريةً أمريكيةً تقول: بسبب مسمارٍ سقطت حدوة حصانٍ، وبسبب حدوةٍ تعثّر حصانٌ، وبسبب حصانٍ سقط فارسٌ، وبسبب فارسٍ خُسِرت معركةٌ، وبسبب معركةٍ فُقِدت مملكةٌ. وذلك في دلالةٍ إلى كون ما "في العلم، كما في الحياة، فالحوادث المُتسلسلة تصل إلى نقطةٍ حرجة، بحيث يتضخّم بعدها أثر الأشياء الصغيرة".
لذلك، حين نأتي لحرب غزة، لا يمكن لوم المقاومة عما قامت به يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، إذ مثلت عملية "طوفان الأقصى" حدثاً استثنائياً في الصراع العربي-الإسرائيلي وفي تاريخ المقاومة الفلسطينية. فالعملية التي أطلقتها المقاومة من خلال هجوم متعدد الجبهات على الأراضي المحتلة بمحيط قطاع غزة المحاصر منذ عام 2006 كانت الأولى من نوعها التي أخذ فيها الطرف الفلسطيني زمام المبادرة وشن عملية بهذا الاتساع على الاحتلال، واستطاع أن يثبت أن الحرب ليست ظاهرة خطّية يمكن السيطرة عليها والتنبؤ بمُجرياته، بل هي حالةٌ أصيلةٌ لهذا العالم تنبع من غريزة البقاء عند البشر التي تدفعها من أجل البقاء القيام بأمورٍ تبدو في ظاهرها جنونيةً.
وتتجلى هذه الغريزة عند الشعب الفلسطيني في قدرته على الصمود، وقبل ذلك قدرته على الفعل المقاوم والتحدي. هذا الصمود الفلسطيني جاء على الرغم من فرض الاحتلال الإسرائيلي الحصار على قطاع غزة لسبعة عشر عاماً متواصلين.
لقد خلق العصر الحالي من خلال هيمنة الرأسمالية وعي عام يمجد العقلانية بشكل يختزل تعقيد العالم بسذاجة، فخلقت مجتمعات ودولاً وأنظمة وأفراداً أيضاً مهووسة بالسيطرة والتحكم فأصابتها عنجهية شديدة جعلها تختزل البشر كمجرد أرقام، متناسين دور الإرادة الإنسانية في تشكيل مسارات الحياة، وأن اللايقين يلعبُ دوراً أساسياً في جريان الأحداث وأنّ أغلب العناصر التي يعتمد عليها البشر لاتخاذ قراراتهم يغمرها مستوى مُعيّنٌ من اللايقين.
تلك العنجهية والفهم الخاطئ للحرب مع الفلسطينيين تجعل المؤسسة العسكرية للاحتلال الإسرائيلي تتخبط في حربها غزة وتستبيح دم المدنيين كالثور الجريح، فرغم مرور أكثر من سبعين يوماً على الحرب، ما زال الاحتلال غير قادر على فهم نجاح هجوم معقّد، مثل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فكيف نجحت المقاومة المحاصرة في تلك البقعة الجغرافية المراقبة على مدار الساعة بهذا الشكل المذهل؟ المفاجأة الكاملة، التخطيط، التنفيذ، كلّ شيءٍ قد نجح بشكلٍ لا يُصدّق. تمكّن المقاومون من الاختراق في كلّ المحاور، دخلوا مقرّ فرقة غزّة! لا يمكن لفشلٍ إسرائيلي وهزيمة أن يكونا أكثر وضوحاً من ذلك.
إن العسكريّين سيجمعون لأعوام قادمة تفاصيل تلك العمليّة، وكيف عطّل الفلسطينيون أنظمة المراقبة والدفاع الآلي، وكيف عبروا السياج إلى الجانب الآخر، وانتظروا قدوم الدبابات كي يضربوها من حيث لا تحتسب. وكيف تمّ الحفاظ على سرّية خطّةٍ بهذا الحجم، جرى الإعداد لها لأشهرٍ وبمشاركة الآلاف.
بالعودة لكلاوزفيتز ومفهومة للحرب، يؤكد أن الغاية منها هو "إجبار العدو على تنفيذ إرادتنا"، وهو ما خطط له المقاومة ونجحت في فرض إرادة شعبها، إذ أعادت ثقل الملف إلى الميدان، وأثبتت للاعبين الدوليين أنه لا يمكن تجاوز القضية الفلسطينية، وحساسيتها، ولاعبيها، لعقد اتفاقيات عابرة للعواصم، تتجاهل حتى التطرق لحقوق الشعب الفلسطيني ولو دبلوماسياً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.